لم يحدُث لي، ولو مرةً واحدةً، أَن أَتلقَّى فاتورةَ كهرباء وأَقرأَ فيها إِلَّا المبلغَ الـمطلوبَ دفعُه، فأَدفعُه وهو أَقلُّ بأَضعافٍ من فاتورة هذا الثعلب المسمَّى “المولِّد” الذي يقضُم أَموالَنا ولا نَقوى على رَدِّ فاتورته وهي من كلمتين لا غير: “الشهر والمبلغ”، ندفعُها صاغرين في انتظارِ سنةٍ، جيلٍ، قرنٍ، يأْتي فنرتاحُ من تَــثَــعْــلُــبِـه وقَضْمِه أَموالَنا في انتظار أَن تكونَ لنا ذات قرنٍ، ذاتَ دهرٍ، كهرباءُ كما لدى بلدانٍ في العالم يُـحاسِبُ فيها الشعب حكَّامَهُ على تقصيرهم ووعودِهم الكذَّابة.
تسلَّمتُ أَمس فاتورةَ الكهرباء وحَلا لي، للمرة الأُولى، أَن أَتأَمَّلها في قراءَةٍ متأَنية.
عنوانُها: “مؤَسَّسة كهرباء لبنان-شارع النهر”. فتذكرتُ مبناها الذي كم مرةً ازدحمَ السير على مدخلِه بسبب إِضراباتٍ وتظاهراتٍ واعتصاماتٍ من عمّالٍ مياومين أَو جباةِ إِكراء.
السطر الثاني: “موضوعُ تقديم الخدمة: مبيع الطاقة الكهربائية”، فتساءلتُ هل نحن نشتري طاقةً كهربائية من الدولة؟ أَم ساعاتِ طاقةٍ من المولِّدات؟
السطر الثالث: “في حال وجود أَيِّ استفسارٍ أَو الإبلاغِ عن عطْل، الاتصال بهذا الرقم 24/24 ساعة”. فتأَوَّهتُ أَنْ ما نفْعُ الاتصالِ والإِبلاغِ عن عطْل طالما كهرباءُ الوطن في عطل دائمٍ، فما نفْعُ الاتصال؟
السطر الرابع: “سارِعوا بتسديد الفاتورة لتجنُّب فصْل التيار أَو قَطْعِه”. وتبسمتُ: نسارع؟ فصْل التيار؟ قطْع التيار؟ وهل حضرة التيار ينتظرُ تأْخيرَنا بالدفع كي تفصِلَه الدولة أَو تقطعَه، وهو مفصولٌ تلقائيًا ومقطوعٌ أَبديًّا؟
السطر الخامس: جملة طويلة لم أَفهمها تنتهي بعبارة “استهلاك سجَّلَه العدَّاد ولم يَتسَنّى قيدُه” وفيها خطأٌ لغويٌّ إِذ بقيَت كلمة “يتسنّى” بالأَلف المقصورة مع أَنها مسبوقة بــــ”لَـم” الجازمة. وهذا خطأٌ لغويٌّ لا يمكن أَن يحصل على فاتورةٍ رسميةٍ في أَيِّ بلدٍ من العالم.
أَقلِب الفاتورة على وجهها وأَقرأُ: “يُرجى التأَكُّد من شخصية الجابي بواسطة بِطاقتِه الخاصة”، وهذا نادرًا ما يحصل لأَنَّ الجابي يأْتي ويذهَبُ ونادرًا ما يراه أَحدٌ يَدلِف إِلى غرفة الكهرباء.
وأَقرأُ عن “شطرٍ من 1 إِلى5″، وعن “سعر الوِحدة” وعن “قيمة الشُطُور”، وأَجزُمُ أَنْ لم أَفهم ما هي ولو شرحَها لي خبير.
وأَقرأُ: “رسْم بدَل تأْهيل”، وأَقرأُ “رسْم العدَّاد”، وأَقرأُ “مجموع الشُطور”، وهي غير “قيمة الشُطور” السابقة، وأَقرأُ “مجموع الرسُوم الثابتة”، وأَقرأُ “مجموع خدَمات الطاقة”، وأَقرأُ “تدوير الأَلْف”، وأَقرأُ “تاريخ الدفْع” ولا أَرى أَيَّ تاريخ، وأَقرأُ “توقيع الجابي” ولا أَرى أَيَّ توقيع، وأَقرأُ “مع الاحتفاظ بجميع الحقوق فما يتعلَّق بالحسابات السابقة”، ولم أَفهم ما هي هذه الحقوق، ولا كلمة “فَما” حتى تَنَبَّهْتُ إِلى أَنها خطأٌ طباعي، والمقصود “فِيما يتعلَّق بالحسابات السابقة”.
أَضع الفاتورة من يدي، وأَتنهَّد متْعَبًا من قراءَة متأَنية تَأَنَّيتُ كثيرًا في تضاعيفِها وتلافيفِها وتواصيفِها وملافيفِها فلَم أَفهمْ لِـمَ كلُّ هذه “الموسوعة” التقْنية المفصَّلة التي لا تفصِّل لنا إِلَّا تفصيلًا واحدًا: الكهرباء مقطوعة تتقطَّر عندنا قَطرةً بعد قَطرةٍ وأَحيانًا بدون أَيِّ قَطرة. ولم أَفهَم كيف فاتورةٌ رسميةٌ تحمل شعار “كهرباء لبنان – مُؤَسسة رسمية” تَصدُر عن دولة لبنان وتتوزَّع على جميع مُوَاطني لبنان في جميع مناطق لبنان وعلى جميع بيوت لبنان، ويكونُ فيها خَطآن: الأَوَّل لُغويٌّ والآخَر طباعيٌّ، ولا مَن يَسأَل ولا مَن يَــتَــنَــبَّه ولا مَن يُصَحِّح.
ثم انكفأْتُ عن الفاتورة وأَنا أُفَكِّر: ما نَفْعُ فاتورةٍ بأَخطائها وغُمُوضِها، طالما الكهرباءُ فريسةُ أَخطاءِ التقنين الذي لم تَكْفِ أَربعون سنةً لرفْعه عن قدرة مواطنينَ لَن يَقرأُوا تفاصيلَ فاتورةٍ ثرثارةٍ معقَّدة، بل يدفعونها بعدما يُسدِّدُون للمولِّد فاتورةً بسيطةً يختصرُها فقط رقْمان بليغان: الشهر والمبلغ.
هـنـري زغـيـب