الساطعةُ ببهاءٍ في القلب النابض من عَلَم لبنان، الـملوِّحةُ للزمان الآتي من أَحلام العُصور، الباقيةُ خضراءَ في فصول الأَعمار لا يَذوي لها غصنٌ ولا تسقُط ثمرة، ليست بهذا الفَخار في أَغاني الشعراء، وحسْب، أَو في تهاليل الـمُخْلصين من أَبناء لبنان، ولا مُـجرَّدَ نقْش في عَلَم الوطن. إنها رمزٌ لـخلودٍ تاريـخيٍّ قد لا يُـجارينا فيه وطنٌ آخَر برمزيته الـحيَّةِ في صفحات التاريخ ومساحات الجغرافيا.
هذا الكلامُ ليس صدىً لذكرى استقلالٍ نعيشُ أَجواءَهُ هذا الأُسبوع، بل هو صوتٌ قويٌّ جهيرٌ يتخطَّى رومَنسيات الحديث عن الأَرزة ليَبْلغ سطوعًا لها علْميًّا تاريـخيًّا مُوَثَّقًا يزيد من اعتزازنا بها عنوانًا، وبوطننا لبنان إِشعاعًا على الصفحة الأُولى من التاريخ.
بين أَحدث ما قرأْتُ: الكتاب الـجماعي “أَرزُ لبنان: الآثار والتاريخ في لبنان” (Cedrus Libani)، انطلاقًا من تسميةٍ علْميةٍ أَطلقها العالِـمُ الفرنسيُّ آشيل ريشار (1794-1852). وفي الكتاب 12 دراسة علْمية عن أَرزنا بأَقلام علماء ورحَّالة وسيَّاح دَوَّنوا مُعايناتهم إِبان رحلاتهم إِلى الشرق.
بين تلك النصوص بحثٌ لعالِـم النباتات الإِنكليزي فرنك هـيـﭙّـر (Hepper: 1929-2013) جاء فيه أَنّ “غابة بشرِّي شكَّلَت عبر العصور مادةً فريدةً لمشاهدات الرحالة إِلى الشرق. وفي كتاب “أَرز بشرِّي كما رواه الرحالة” أَنّ أَقْدمَهم هو العالِـم الفرنسي ﭘــيار بُلُون (Belon: 1517-1564) الذي زار غابة الأَرز سنة 1550 وعدَّد فيها 28 شجرة كبرى، حتى إِذا زارها بعد ربع قرنٍ عالِـمُ النباتات الأَلماني ليونارد راوولف (Rauwolff:1535-1596) رآها ضمُرت عن ذلك العدد. لذا بقيَت أَشجار الأَرز لرحَّالة القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر (وبينهم لامرتين) ذاكرةً مهيبةً في الكتاب المقدس، وبرزت جليَّةً في كتب قديمة كـملحمة غلغامش السومرية التي رسمَت جسرًا بين أَرز لبنان وبلاد ما بين النهرين.
ومن أبحاث الكتاب أَيضًا دراسة للباحثة الفرنسية المعاصرة فرنسواز بْريكيل شاتونِيه (Briquel- Chatonnet من “المجلس الوطني للبحوث العلمية”) ذكرت أَن خشب الأَرز “من الأَندر في العالم فخامةً وترفًا، وصلابةً وجمالًا وعطرًا بلسميًّا”، ومن هنا “تَـمجيدُه منذ القِدَم جديرًا دون سواهُ بأَجواء الآلهة ووُسَطائـهم على الأَرض: الـمُلُوك”.
هكذا أَرزُنا خالدٌ منتشرٌ منذ صباح التاريخ في أَرجاء بعيدة من العالم، بين مصر (مركب خوفو) وتركيا (خلقيدونيا) وقبرص (مراكبها من العصر البرونزي) وأَكاديا (قصر سرجون) وأَريحا (ضريح من العصر البرونزي الوسيط) وسواها.
هذا هو مجدُها التاريخي الـمَهيب، هذه الخضراءُ الفتيةُ ابنةُ العصور الأَلفية السحيقة، تنبُض في قلب عَلَمِنا الجميل الخالد.
غير أَنَّ الرومَنسية، مع جمالها، لا تكفي، بل يجب أَن ترفدها أَعمالٌ استدراكيةٌ علْميةٌ عالـميةٌ وجَب اللجوءُ السريع إِليها، حفاظًا على البقية الباقية من أَرزتنا الرمز، كي لا تـبقى صورةً على بياض العلَم وتـختفي عن بياض الثلج على قمم لبنان.
هـنـري زغـيـب
www.facebook.com/poethenrizoghaib