“أَزرار” – الحلقة 1013
هذا العنكبوتُ الوحش قاتلُ الأَدب الحميم
“النهار”  –  السبت  4  تشرين الثاني  2017

وداعًا زمانَ مكاتيب الحُبّ الـمَخطوطة بحنانٍ وَوَلع

         إِن كان للأَدب وجهٌ آخرُ جميلٌ فهو التراسُل. وفي تاريخ الآداب صفحاتُ رسائِلَ خاصةٍ انكشفت للعامة فبدا أَصحابها على غير ما هُم في كتاباتهم الإِبداعية شعرًا أَو نثرًا. وعند انكشافها، مخطوطةً في محفوظات صاحبها أَو لدى آخرين، أَو مطبوعةً في كتاب أَو أَكثر، تـــتَّـضح شخصية أُخرى للأَديب ما كانت لتنصع لولا مراسلاته.

         وسواء كانت الرسائِل ذاتَ طابع عامّ (رسائِل أَمين الريحاني) أَو طابع خاص حميم (رسائِل جبران إِلى ماري هاسكل وميّ زيادة)، ففي سطورها ملامحُ لا نقرأُها في مؤَلّفاتهم لأَن فيها أَنفاسًا يتبسّطون فيها على سجيَّـتهم (رسائِل أَلفرد دو موسيه وجورج صاند، رسائِل بودلير إِلى جانّ دوﭬــال، وعشرات أُخرى بل مئات) حتى لتتعذَّر كتابة سيرتهم من دون تلك الرسائِل.

         ولأَنها كانت وسيلةَ الاتصال الوحيدة، بطيئَة أَو سريعة للتبليغ أَو التعبير، وفيها أَعمق المشاعر الحميمة والمشتعلة التي يرفض ذَوُوهُم أَو الآخرون بعدَهم كشْفها عنهم، كانت تشكِّل مادة للإِتلاف أَو الإِخفاء (كمحاولة باربرة يونغ إِتلاف رسائِل جبران وهاسكل، أَو كإِرغام ليلى العضم على إِحراق رسائِل الياس أَبو شبكة إِليها، وفيها من الحُبّ اللاهب ما لم يــبْــلُــغْــه أَبو شبكة في جميع قصائده).

         قلتُ إِن هذا في الأَدب وجهُه الجميل الآخر، لكننا اليوم، مع كل ابتهاجنا بوسائِل الاتصال ووسائِط التواصل، سنفتقد هذا الوجه الحميم في الإِرث المكتوب، لأَن ما كان الأَديبُ يكتبه لحبيبته، اتِّصالًا إِخباريًّا أَو بثًّا حميمًا، أَخذ يقوله شَفاهةً هاتفيةً عند تَعَذُّر اللقاء فلا يعود يَكتبه، أَو بات يُرسله من هاتفه المحمول كلماتٍ نَصِّــيَّــةً قصيرة، أَو نُصوصًا “واتْسْآﭘــيةً” متوسطة، أَو رسائِلَ إِلكترونيةً طويلة، سرعان ما يخبو وهجها وتنطفئُ حميميَّـتُها عند انطفاء جهاز الهاتف أَو جهاز الكومـﭙـيوتر، وفي جميع هذه الحالات تندَثِر رمادًا في آنـيَّــتِــها العابرة وتَزولُ حميميَّـتُها الخاصة فلا يبقى منها للعامة أَيُّ أَثَـر أَدبـيٍّ يُنبئُ عن شخصية كاتبِها، إِلَّا إِذا بلَغَ بصاحبه الوَلَهُ والوَلَعُ والعشْقُ المجنونُ أَن يَحفظ كتاباتِ حبيبته كاملةً فيسحبَها من هاتفه أَو من بريده الإِلكتروني ليُبقيها ذخرًا في محفوظاته ولو بقيَت بينهما ولم تَخرج إِلى النور بين دفَّــتَـي كتاب.

         هذا هو الأَثر السلبيُّ لوسائل العصر الإِلكترونية على أَدبٍ حميم يسترسل فيه كاتبُه بِـجُمعة حواسّه وأَحاسيسه واندفاق عاطفته في شهوة الحب الرائع، وتكون رسائلُ حبّه جسرًا تمتد عليه سيرتُه الذاتية ليكتُبَها بعده بيوغرافيون يكشفون عن وجهه الآخر.

         أَيها العصر الجديد، يا “غُوْلَ” الوسائل والوسائط العصرية الآلية والإِلكترونية، صحيحٌ أَنكَ جِــئْــتَــنا بِـما يُسهّل حياتنا لكنك، بشبكاتك العنكبوتية، حَــرَمْــتَــنا من لحظاتٍ لن نَـجدَها بعد اليوم تَصدُر في بَكارتها الحميمة فنَقرأَ فيها رائعًا جنونَ العاشقين.

هـنـري  زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib