جاءَني قبل يومَين بالبريد الإِلكتروني فيلمٌ قصيرٌ من دقيقتَين و20 ثانية، أُشْرِكُكُم به معي لبلاغة معناه وأَثرِ الحكمة العالية فيه، مع شُكْريَ العميق لـلصديق الذي أَرسلَهُ إِليّ.
في الفيلم أَنّ مُدَرِّسَ مادة الفلسفة وضَعَ على طاولته في الصَفّ وعاءً زجاجيًّا متوسطَ الحجم فارغًا، وأَخذ يَـضع فيه طاباتٍ بيضاءَ حتى امتلأَ، فسأَل تلامذتَه: “أَتَرَون الوعاءَ ملآن”؟ أَجابوا جميعًا: “نعَم هو ملآن”. ثم راح يدُسُّ في الوعاء مجموعةَ حصًى صغيرةٍ ملأَت الفجواتِ الفارغةَ بين الطابات، وعاد يسأَل تلامذتَه: “أَتَرَون الوعاءَ ملآن”؟ فَأَجابوا جميعًا: “نعَم هو ملآن”. ثم تناول في كفّه حفنةَ رملٍ أَفرغَها في الوعاء، فَسَدَّت حُبَيباتُ الرمل كلَّ الباقي فارغًا بين الطابات والحصى. وعاد يسأَل تلامذته: “أَتَرَون الوعاءَ ملآن”؟ فَأَجابوا جميعًا: “نعَم هو ملآن”. أَخيرًا أَفرغَ في الوعاء كميةً من البيرة عَبَّأَت ما تبَقّى من فراغاتٍ بين الطابات والحصى والرمل. وبسؤَاله التلامذةَ، أَجمعوا أَيضًا على أَنّ “الوعاء ملآن”.
عندئذ قال لهم: “أُريدُ من كلِّ هذا إِفهامَكم أَنّ الوعاءَ يُـمثِّـل حياةَ كلِّ واحدٍ منكم. الطابات تمثّل الأُمور الرئيسة في حياتُكم: الصحّة، العائلة، الصداقات، الهوايات، الرغبات والتمنيات، وهي التي تَملَأُ معظم حياتكم. الحصى تمثّل أُمورًا أُخرى رئيسةً كذلك في حياتكُم: العمل، البيت، المسؤُوليات. والرمل يمثّل الأُمورَ الصغيرةَ الثانويةَ الهامشيةَ غيرَ الـمُهمة في حياتكم. وهكذا: إِذا وضعتُم الرمل أَوَّلًا، يَمتلئُ به الوعاءُ فلا يـبـقى مكانٌ لأَيِّ اتّساعٍ آخَر. هكذا حياتُكُم: إِذا صرفتُم كلَّ وقتِكم وطاقاتِكم على الأُمور الصغيرة الهامشية، لن يعودَ في حياتكم مُتَّسَعٌ للأُمور الرئيسة الـمُهمّة. إِذًا: استعمِلوا وقتَكم بدرايةٍ، ورَكِّزوا على أُمورٍ مُهمَّةٍ تجعلُكم سعداء، فكل الباقي ليس سوى… رمل”.
هنا صرخ تلميذ: “ولكنْ، لم تُحدِّثْنا عن رمز البيرة في الوعاء”. فابتسَم الـمُدَرِّس وأَجاب: “البيرة لنقولَ أَنْ مهما كانت حياتُنا مليئةً بالأُمور الرئيسَة، تبقى فيها فُسحةُ وقتٍ لتَنَاوُل كوبٍ من البيرة، أَو فنجانٍ من القهوة، مع صديقٍ مُـخْلصٍ نرتاح إِليه”.
***
هوذا ملخَّص هذا الفيلم القصير، رَسَمَ في دقيقتين و20 ثانيةً حكمةَ حياةٍ كاملةٍ يَجدُرُ بنا أَن نَـملأَها بالـمُفيد الأَهَمّ لا بِحفنةٍ من الرمل تَسُدُّ على حياتنا كلَّ منفَذٍ لأَيِّ أَمرٍ مُهِمّ.
هنا بلاغةُ هذه الحكمة: مَن يَملأُ كفَّه ثمارًا ناضجةً، يَغنى بها ويُغني السِوى، وإِن كانت فَجَّةً، أَضَرَّتْهُ وأَضَرَّت السِوى.
ومَن يملأُ كفَّه بحفنةِ رمل، سُرعانَ ما يَزْلُقُ الرَمْلُ حُبَيباتٍ حُبَيباتٍ من بين أَصابعه، حتى يكتشِفَ بعدَ لحظاتٍ أَنه لا يُـمسِكُ في كَفِّه سوى… حَفنةِ ريح.
هـنـري زغـيـب
www.henrizoghaib.com