لا يزال المشهد يومئذٍ آخذًا بي إِلى أَبعدَ منه.
يومها كنتُ في مسرح بيار أَبو خاطر (جامعة القديس يوسف) أَحضر احتفالًا بصدور كتاب “هتاف الرُوح – شعراء أَرمينيا” بترجمة جولي مراد (بعد “شعراؤُنا – صانعو مجد أَرمينيا”، والكتابان بطبعة لائقةٍ وأَنيقة جدًّا من “دار المراد” – بيروت).
أَتجاوز تفاصيل الاحتفال والكتاب لأَصل إِلى “معمودية الكتاب” (العبارة من بطاقة الدعوة). ارتقى المسرح المطران كيغام خَتْشريان وشرح تقليدًا درَج عليه الأَرمن منذ العصور القديمة: مَشْحُ أَطراف الكتاب بــ”شراب الرمّان المقدّس” على نسخة منه تذهب بعدها للحفظ في متحف أَرمينيا الوطني رمزًا للحضارة المستدامة. وشرَحَ أَكثر: الشعب الأَرمني في العالم، بتَماسُكِه وتَضامُنه وتَكتُّله، يُشبه الحبوب المتراصَّة في كوز الرمان. وختَم المطران بما هو أَبلغ: “نحن لا نقول إِن الكتاب صدَر، بل نقول إِنه رأَى النور”.
معروفٌ أَن شجرة الرمَّان غذّت برمزيتها منذ القِدَم أَمثالًا وتراثًا بالإِيحاءات والدلالات، ووردَت في الكتب المقدسة وفي أَساطير الشعوب شجرةً طيّبة، ثمرتُها رمز الخصوبة. هكذا نفهم معنى “المعمودية”، ومغزى أَنْ راح في الاحتفال كلُّ مدعوٍّ إِلى المنبر يغمس إِصبعه في “شراب الرُمّان” ويَـمشَح به صفحة من الكتاب الجديد.
أَبْعدَ من هذه “المعمودية النبيلة” في تراث الأَرمن العريق، أَخذَني المشهدُ إِلى مبدإِ “تكريس الكتاب”.
جليلةٌ هذه الظاهرةُ في الاحتفاء بـ”كتابٍ رأَى النور”. وجلالُها أَنها تتماهى بالإِنسان لتكون أَبقى منه وأَخلَد. فالإِنسان “يرى النور” يومًا لينطفئَ هذا النور من عينيه ذات يوم، بينما الكتابُ يرى النور يومًا ليبقى هو ذاتُه نورًا كل يومٍ إِلى آخِر الأَيام.
إِنه “الكتاب” إِذًا. والاحتفالُ بولادته احتفاءٌ بمولود مقدَّس.
“مقدس”، نعم، وهذه هي الكلمة. وبه تليق. فهو “الكتاب”: “الكتابُ المقدَّسُ” الحاملُ أَسفارًا “بيبلية” على اسم مدينتنا الخالدة “بيبلوس”، وهو “كتابُ الأَناجيل” ميزانُ “العهد الجديد”، وهو “كتابُ الله” تعالى “القرآن الـمُبين، هدًى للمؤْمنين”، وهو “كتابُ العدل” الحاملُ دساتير الناس وسُنَنهم والشرائع، وهو الكتاب عمومًا، حين يستاهل أَن يحمل شرف الاسم فيرفع إِلى ذاكرة الزمان خلودَ صاحبه شعرًا ونثرًا وآفاقًا على كل فجر.
إِنه الكتاب، ورَقيًّا بين دفَّــتَـين حتى زمن اليوم، وإِلِكْترونيًّا على الشاشة منذ زمن اليوم، المقدَّسُ في الحلّة الأَنضر، في الهالة الأَبقى والأَنقى والأَرقى، منبعُ البقاء ورُوحُه، مرجعُ البقاء ونبْضُه، فردوسُ الكلمات الخصيبة، جنَّةُ الحروف الخضيبة، بيتُ الشعراء والأُدباء، ربيبُ الصباحات الواعدة بشمس الجمال، عند ولادته فَرَحٌ لصاحبه بالولادة، وعند غياب صاحبه يبقى حارسَ غيابه أَقوى من الحضور.
إِنه الكتاب، ولا أَشرفَ من استقباله بالشراب المقدس مَولودًا جديدًا يـبـقـى سُلافًا سحريًّا لِـخَمر العُصور.
هـنـري زغـيـب