في تقاليد الـموريتانيّين أَنّ الشاي عنوانُ كرمهم والضيافة ومُلهِمُ الشعراء والفنانين. لذا منحوه هوية خاصةً ذاتَ أُصولٍ ورُمُوز، ويكرّمونه بسَكْبه في أَوانٍ فخمة خاصة باهظة الثمن أَباريقَ وكؤُوسًا، ويقدِّمونه في فنجان زجاجي صغير يسمونه “الكأْس”، نصفُه الأَعلى مليْءٌ برغوة الـ”أَتاي”، والشايُ في نصفه الأَسفل.
والثقافة الشعبية في موريتانيا تربط تقليدَ احتساء الشاي بشروط أَساسية يختصرها هذا المثل الشعبي: “لا بُدَّ للأَتاي من ثلاث جيمات: جيم الــجــماعة، جيم الـجــر، وجيم الــجـــمر، وتفسيرُها أَنّ جيم الجماعة تدُلّ على جِلسة الشاي الـجَماعية يُـحضِّرها “القَيَّام” (أَي مُعِدُّ الشاي، وهو عادةً أَصغر الجماعة سنًّا). وجيم الجـرّ للجـر الـمتكرر بتقديم كؤُوس الشاي ثلاث مرات في إِطالةٍ تـجُرُّ وفق الفترة الزمنية التي يدوم فيها اجتماع الجُلَّاس حول كؤُوس الشاي، وجيم الجمر أَن يظلَّ الشاي يغلي على جمر ملتهب.
إِذًا ها هي الجيمات الثلاث: جماعة، جَـرّ، جــمْـر لـجِلسة شاي ممتعة حسب الأُصول والتقاليد.
عندما تلقّيتُ هذه المعلومة، أَخذني التفكير إِلى مشابهة لافتة بين توليف الشاي في موريتانيا وتأْليف الحكومة في لبنان.
ففي جيم الجماعة أَنّ تأْليف الحكومة عندنا يتم جَـماعيًّا، لا في قصر الرئاسة ولا في القصر الحكومي مجتمعَين بل يشترك الجميع في تشكيل الحكومة: الجميع يأْخذون رأْي الجميع، والجميع يراعُون خاطر الجميع، والجميع يُراضون الحردانين والرافضين والمعاندين والراغبين والـمتدلّعين والنَكِدين.
وفي جيم الـجَـرّ أَنّ التشكيل يَـجُـرُّ أُسبوعًا، أُسبوعَين، شهرًا، شهرَين وأَكثر، ولا أَحدَ مستعجلٌ طالـما “القاضي راضي” ويبشِّر أَنْ “ما فات الوقتُ بعد”، كأَنّ الوطن ينتظر وهو بأَلف خير، والشعبَ ينتظر وهو يعيش في مَوفورِ السعادة وهناءة البال، والمحيطَ العربي هادئٌ ساكنٌ سعيدٌ لا معاركَ فيه ولا حروبَ ويـجُـرُّ سعادته وأَمنه وأَمانه بكل راحة.
وفي جيم الجمر أَنّ طبخة الحكومة دومًا على جَـمْرٍ لاهبٍ حتى الشَوشَطَة، وفي النهاية لا يصل منها إِلا شكلها المحروق.
هكذا إِذًا: بين الجيمات الثلاث لـجِلسة شاي ممتعة في موريتانيا، وجيماتٍ ثلاثٍ لطبخة حكومية لذيذة في لبنان، تتَّضح خارطة الوطن: في موريتانيا يأْخُذون وقتهم في احتساء الشاي بهدوءٍ ومتعةٍ ووقتٍ مستطيل، وفي لبنان يأْخذون وقتهم في احتساء تشكيل الحكومة ببطءٍ ورويةٍ ووقتٍ يتمطّى ويستحيل.
وبين احتساء الشاي وتشكيل الحكومة، ينكشف الفارق بين أَن يكونَ الوطن محبوبًا بشعبه المحبوب، وأَن يكون وطنًا منكوبًا بحكامه السعداءِ الـمُنْشَرحِـين غير الـمستعجلين، الرابضين على صدر الشعب المقهور والمنكوب.
هـنـري زغـيـب