كلما اشتدّت الأَزمة السياسية في الوطن، تتعالى أَصواتٌ سائلة: “أَين المثقَّفون؟ ما دورُ المثقَّفين؟ لماذا لا يتحرّك المثقَّفون”؟
ويروح نـفَرٌ يلبّي الدعوة إِلى “الـحَراك” بتشكيل تجمُّعاتٍ، وتدبيج بياناتٍ، وإِطلاق شعاراتٍ تغرق جميعُها هباءً في مستنقع السياسة المستدامة العمياء الـمعـتمِدةِ أُسلوبَ النعامة في التصدّي والتفاعُل.
الإِشكالية هنا: تعريف “المثقَّف” و”الثقافة”.
للثقافة وجهان: ثقافةُ الجماعة الناضجةُ التي تؤَدّي إِلى تيار اجتماعي تغذّيه المعرفيات العلْمية والأَدبية والفنية، وتُنتج تغيـيرًا تدريجيًّا في مفاصل المجتمع، وثقافةُ الفردِ الإِبداعيةُ التي تُنتج آثارًا ومؤَلفاتٍ تكون النُسغ الذي تَغتذي منه ثقافةُ الجماعة، فيغدو الفرد نهجًا ومثالًا.
من نتاج ثقافة الفرد: التوجيهُ إِلى المستقبل. ومن نتاج ثقافة الجَماعة: التوجيهُ إِلى حاضر ديمقراطي يتشكَّل من متنوِّرين أَفراد يُفيدون أَوساطَهم كلٌّ في دائرة اختصاصه الاقتصادي أَو الاجتماعي أَو العلْمي أَو الفني.
وما عدا ذلك: تنظيرٌ في غير مكانه، وتهويم على “ثقافة” سطحية بدون ركْنٍ ذهني عمَلي، كالثقافة الاستهلاكية المستمَدَّة من “الفايسبوك” وبرامج التلـﭭـزيون وحكي الصالونات وتنظير الإِيديولوجيات.
دورُ المثقَّفين الحقيقيين: التنويرُ بــ”تحريكهم” لا بــ”حَـرَاكهم”. ليسوا صحافيين لمتابعة الأَحداث والتعليق عليها، ولا “مناضلين” جماهيريـين في جمعيات مدنية أَو “حَراك شبابي”، وليس دورُهم “النضال” في الزواريب والساحات والباحات والشوارع والتظاهرات وشَهْر الأَسلحة ومحاربة الواقع السياسي.
دورُهم في حضورهم بنتاجهم المعمَّق عِلْمًا ومعرفةً وتَبَصُّرًا فينومينولوجيًّا حكيمًا. هذه هي مقاومتُهم الحقيقية ضدّ الوضع العام، لا ضدّ متنفّذين في السلطة أَو قادةِ تياراتٍ سياسية راهنة أَو عابرة أَو مستجدَّة أَو موروثة.
دورُهم التوعيةُ من خلال كتاباتهم وأَفكارهم وتوجيهاتهم الطالعة من تجاربهم الخاصة، أَو من اختباراتهم تجاربَ الآخرين، بعيدًا عن التهوُّر والـهَوْبرة وتنظيم الاعتصامات والوقْفات والمواقف. هذه متروكةٌ للمتلقّين لا للملقّنين.
دورُهم أَن يخلُقوا تيارًا لا أَن ينتظموا في تيار، وأَن يكونوا قادةَ وعْيٍ بأَفكارهم ونتاجهم لا أَن يتكوَّموا حبوبًا في مسبحة القادة.
المثقَّفون الحقيقيون هم المنتِجون فكرًا وحكمةً ورؤْيةً بعيدةً ورؤْيًا ناضجةً، الرابطون الوضْعَ الاجتماعي والاقتصادي بمفاهيم راقية توصِل إِلى خلع المفاهيم السياسية الفاسدة بتكوين بُذورٍ في المجتمع تُـؤَدّي لاحقًا إِلى تشكيل وجهٍ للمجتمع جديدٍ يقوم على مفهوم عصريٍّ عَلْماني لاطائفي ولاسياسي، يُنتج قادةً جُدُدًا لمجتمعهم، وعهدًا جديدًا لوطنهم، فتكون الثقافة جسرًا إِلى العهد الجديد، ويشكِّل “المثقفون” عقْدًا اجتماعيًا جديدًا به ينتظم المجتمع إِلى الخير والصَلاح واستشراف مستقبلٍ مفتوحِ الأُفُق أَمام الأَجيال الجديدة.
هنا الفارق الجوهريُّ الساطع بين “الحـَراك المدني” الطالع من الانفعال ورُدود الفعل، و”الـحَراك الثقافي” الطالع من الأَفعال واستنباط الفعل.
وبين الفعل وردود الفعل يكمُن جوهر المسأَلة.
______________________________________________________________________________
* “النهار” – السبت 26 آذار 2016