أزرار- الحلقة 926
مناراتٌ على شاطئ الوطن *
السبت 6 شباط 2016

        الـمُـتـنـزِّهون والـمُشاة هذا الأُسبوع على كورنيش المنارة في بيروت لم يكونوا يَلتفتُون إِلى البحر بل إِلى فوق، تُرافقُهم لافتاتٌ كبيرةٌ رفعَـتْها الجامعةُ الأَميركية على طول الكورنيش، لـمناسبة احتفائها بالذكرى 150 لتأْسيسها (1866-2016)، وهي صُوَرُ أَعلامٍ كبارٍ في تاريخ الجامعة بَرعوا كلٌّ في اختصاصه فَرَفَدوا لبنان والعالم بمواهبهم الفريدة.

          أَسماء ووُجوه تـتـوالى على الأَعمدة، كأَنّ كلّ عمودٍ منارةٌ تَحرُس البحر وتُضيءُ ذاكرة العابرين على كورنيش البحر فيقـفون تحت كلّ اسمٍ وصورة، يتأَمَّلون ماضيًا نبيلًا، قارئين صفحةً بهيّةً من تاريخ جامعةٍ ووطنٍ على شاطئ نجمة الوطن: بيروت.

          أَعلامٌ أَسَّسوا واشتغلوا. ها صُوَرُهم تُذكّر بهم: لكل صورة قصةُ نجاح ذاتَ فترة مباركة، وها بحر بيروت ينقلُها صدى موجه الآتي من البعيد حاملًا نكهةً نوستالجيةً لاستذكار أُولئك الكبار في ذاكرة لبنان.

أَجيالٌ تتعاقب في هذه الصُوَر، وإِنجازاتٌ كبرى تنضح من أَصحاب الصُوَر، أَيام كانوا مسؤُولين في الجامعة، أَو طلّابًا على مقاعدها تخرَّجوا منها إِلى مساحات الدنيا فاتسعت لهم ولنبوغهم مبدعين في لبنان والعالم، صانعي التاريخ الحديث.

          صانعُو التاريخ… والبحر، يتأَمّلهم مُشاةُ الكورنيش كأَنما يتحاوَرون معهم، تنعكس ظلالُ السعادة من الوُجوه العالية، سعادة تحقيقِ الأَحلام الكبيرة ورسْم غبطةِ لبنان الزَهوى افتخارًا بأَبنائها. هكذا مشهَد الكورنيش: المشاة يتوقَّـفون، راكبو الدرّاجات يتوقّـفون، الصغار مع أَهاليهم يتوقَّـفون، وعيونُ الجميعُ إِلى فوق، يتأَمّــلون لَأْلَأَةَ الحكاية على صدى الموج يحمله إِلى عيونهم هواءُ البحر فتنفتح في مُـخَــيِّــلتهم آفاقُ الطموح إِلى غـدٍ أَفضل ووطنٍ أَفضل في زمنٍ أَفضل.

          واحد وستُّون مبدعًا، منذ دانيال بْـلِـس (1866) حتى اليوم، بأَسمائهم واختصاصاتهم، ليست صورُهم جامدةً بل نابضةٌ حيَّةٌ متحركةٌ كموج البحر المتجدِّد على شاطئ بيروت من أَوّل الدهر، لا الدهرُ يَهرَم ولا بيروت تَـهرَم ولا يَهرَم الموج. هكذا “صانعو التاريخ” يُحوِّلون الوقت بين أَيديهم طِينًا طَــيِّــعًـا يُقَولبون به حاضرَهم المجيد السعيد، وبه ينحتون أَنصابًا للنجاح تُخلِّدهم وتُسعِد الأَجيال التالية، فإِذا غيابُهم أَسطَعُ من حضور، يَهدُر بأَسمائهم وصُـوَرهم كما يهدُر موج البحر على شاطئ البحر في أَذهان الـمُشاة والـمتنزِّهين فلا يعود الكورنيش مسافةً للمشي بل صفحةً تَـقرأُ فيها العيونُ صُـبحًا متجدِّدًا في وطنٍ ضئيلِ الجغرافيا والديموغرافيا لكنه عظيم “الإِبداعُوغرافيا” بفضل مُبدعين مرصَّعين على جبين الزمان مناراتٍ مرصَّعةً على كورنيش البحر كي يَهدُرُوا أَبدًا في الذاكرة كما تَهدُر موجاتُ البحر على شاطئ الوطن.

          صانعُو التاريخ… والبحر.

إِنها حكايةُ وطنٍ، لأَبنائه طموحٌ وِسْعَ سمائه اللامحدودة، وَوِسْعَ بحره الهادر بموجه العظيم يستريحُ على شاطئ بيروت.


* “النهار” السبت 6 شباط 2016