“بعد سنواتٍ من هناءة اللبنانيـين بالميثاق الوطني الجامع، عادوا إِلى التشرذُم الطائفيّ والتحقَ كلُّ فريق منهم بمرجعيةٍ خارجية، مُهْمِلين بناءَ الدولة الواحدة الجامعة، فتلاشَت الدولةُ اللبنانية، وخضعَت البلاد لسُلُطات خارجية، وسقَط الميثاق، وانفَقَد الاستقلال، وتفكَّكت الدولة، وانتشرَت الفوضى، واستشرى الفساد. اليوم، بعد 40 عامَ انقسامٍ وتناحر، آن للُّبنانيـين أَن يستخلصوا العِبَر من أَخطائهم الماضية فيعودوا إِلى دولتهم، ويعتنقوا الخيار اللبناني. إِنه الأَمثلُ ولو الأَصعب، لكنّه الوحيدُ الذي يجعلُهم جديرين بالاستقلال“.
بدَأْتُ من النهاية، من خاتمة الكتاب، لأَنها صرخةُ وَعْيٍ في بابلِ ما يجري اليوم على الساحة السياسية اللبنانية وانعكاساتِه على الشعب الضائع بين الموجات الهائجة من الأَحداث الهائلة.
إِنها صرخةُ الدكتور شارل رزق في كتابه الجديد “بين الفوضى اللبنانية والتفَكُّك السوريّ” الصادر قبل أَشهر عن “دار النهار” في 262 صفحة حجْماً وسطاً، تتصدَّرها توطئةٌ توضِح أَنّ هذا ليس كتابَ مذكّرات بل “تحليلُ تجربةٍ لبنانيةٍ فشلَت ذريعاً بعد سقوطها عن دَورٍ تاريخي كبير كان لنا بفضل تَـنَـوُّعِـنا الطائفي المتمثِّل في بناء مُواطَنَةٍ تُوَفِّق ما بين احترام الخصوصيات المذهبية، متجاوزةً إِياها إِلى الولاء للوطن الواحد، مُشَـكِّـلَـة نموذجاً فريداً في هذا العالم العربي“.
هكذا، بهاتَين الجرأَة والصراحة، بنى شارل رزق كتابه، منذ عودته من ﭘـاريس إِلى لبنان منضمّاً إِلى فريق العمل مع الرئيس فؤَاد شهاب، وتَنَقُّلِه من عهد رئاسي إِلى آخَر، ومن منصب رسمي إِلى آخر: مستشاراً فمديراً عاماً فوزير سياحة وإِعلام، ووقوفِه إِبانها جميعاً شاهداً على تَفَكُّك الدولة وتَحَلُّلِها، منهياً تلك الرِّحلةَ الرسميةَ وزيراً للعدل بمغامرته الخطِرة في إِنجازٍ يـعـتـزُّ به: نجاحُهُ عكس التيار وتحت الخطر في إِنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان لتُحقِّق في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. ويعلِّل إِنشاءَ المحكمة الدولية بــــ”غياب دولةٍ لبنانية تَرعى محكمةً وطنيةً قادرةً على النظر في جريمةٍ على أَرضٍ لبنانيةٍ راح ضحيتَها رئيسُ حكومة لبنانية ومواطنون أَبرياء“، ويمضي مُصَرِّحاً: “أَسفْتُ لرؤية وطني لبنان محروماً من دولةٍ تَحمي أَبناءَه وتَضمَنُ استقلالَه“.
بهذه الصراحة المسنونة الحادّة وضعَ شارل رزق كتابه هذا “بين الفوضى اللبنانية والتفَكُّك السوريّ” وقسّمه ثلاثةَ فصولٍ، أَوَّلُها “مِن تَبَخُّر الدولة اللبنانية إِلى الوصاية السورية“، ثانيها “لبنان والتفَكُّك السوريّ“، وثالثُها “لبنان في المناخ الإِقليمي والدوليّ بعد العام 2013“.
يَطُول الكلام في هذا الكتاب الشيّق بتحاليله، الجريْءِ بحقائِقه، المؤثِّر بتَدَرُّج انهيار الدولة اللبنانية حتى بلوغِها اليوم حالةً تتخبَّط فيها وسْطَ تمديدٍ قَيصري لولايةِ نُــوّابٍ عجِزوا طيلةَ سنةٍ كاملة عن انتخاب رئيسٍ لبلادٍ تضعف مناعتُها وتقوى حولها نيرانُ تغيـيرٍ يجتاح الدول، والشعبُ اللبناني واقعٌ بين الخوف والخطَر أَمام فقدان المناعة الخطير في مفاصل الدّولة اللبنانية.