كان سعيد جنبلاط شخصيةً جدليةً حازمةً في قومه وفي امتداداته وتحالفاته، حتى قضى شهيدَ مواقفه مظلوماً لا ظالماً، مقتولاً لا قاتلاً، فسجَّل تاريخُه اللاحقُ نصاعةَ مواقفِه التي لم يقرأْها العثمانيون على حقيقتها فاتّهموه وارتَهَنوه.
هذا ما يظهر في كتاب “سعيد بك جنبلاط” للمؤَرّخ الدكتور رياض حسين غنَّام صادراً قبل أَيام عن “دار معن” في 350 صفحة قطعاً كبيراً، وفيه وقائعُ وملاحقُ وفهارسُ أَعلامٍ ومناطقَ، ووثائقُ عن حقبة صعبة من تاريخ لبنان، معظمُها امتدَّ بين أَحداث 1840 و1860، تلك التي شهدت تنازُعاً متواصلاً بين الموارنة والدروز انتهَى بقيام نظام قائمقاميَّتين (مارونية ودرزية) توحدتا مع نظام المتصرفية الذي استمر حتى اندلاع الحرب العالمية الأُولى.
و”الشيخ” سعيد جنبلاط (أَوضح المؤَلِّف لقَب “الشيخ” حفاظاً منه على تسمية الأُسرة الجنبلاطية) كان محور اتصالاتٍ ومباحثاتٍ ومشاورات، ومرجعيةً سياسيةً درزيةً أُولى، تحكيماً بين القوى المتنازعة، مَوارنةً ودروزاً، كما بين الأَعيان المحليين وقناصل الدول الأُوروﭘــية ومفاصل السلطنة العثمانية.
وكانت له مواقفُ حاميةٌ سكانَ المناطق المختلطة في الشوف، ووِقفاتٌ مناصرةٌ ثورةَ طانيوس شاهين والفلاحين في كسروان، ومشاركاتٌ عادلةٌ يوم انفجرت الفتنة القاسية سنة 1860 انطلاقاً من برمانا وبيت مري ورأْس المتن والـمتَين وقرى الغرب والشحار الغربي وضهر البيدر وزحلة وكفرسلوان، وتعهَّدَ حماية أَهل جزين قبل وصول الفتنة إِليهم.
تلك التفاصيل، وسواها الكثير، يحملُها كتاب رياض غنام في فصوله السبعة، منذ إِضاءته على الإِرث التاريخي للأُسرة الجنبلاطية ومحورها بعقلين، مروراً ببروز سعيد جنبلاط سائراً على خطى والده الشيخ بشير، ثم بتوطيد زعامته على الجبل حتى توسُّعِها خارج حدود القائمقامية الدرزية، فحضورِهِ التصاعدي في فتنة 1840 الأَهلية وترشيح الإِنكليز إياه حاكماً على القائمقامية الدرزية، ثم في فتنة 1845 وتكريسِه زعيمَ قومه، كما في فتنة 1860 ودوره الإيجابي في أَحداث زحلة ودير القمر، إِلى أَن جاء فؤاد باشا العثماني بإِجراءاته التعسُّفية تعاوناً مع بعض قناصل الدول الأَجنبية وتسبُّبِه بنهايةٍ مأْساويةٍ قضَت على الزعيم الجنبلاطيّ في وفاةٍ لا تزال إِشكاليةً بين أَن يكون مات مسموماً أَو مرهَقاً بداء السل.
كتاب “سعيد بك جنبلاط” للدكتور رياض غنام، إِطلالةٌ تاريخيةٌ أُخرى من صفحات تاريخ لبنان الذي ما زال يتكشَّف تباعاً على أَقلام المؤرخين حضوراً دامغاً لِبَلَدٍ ما زال سياسيوه إِلى اليوم يتنازعون في ما بينهم حتى تَـمُدَّ إِليه أَيديها الدولُ الكبرى فاصلةً في النزاع بين أَهله المنقسمين سياسياً فصائلَ فصائل، وكلُّ فصيلة تستنجدُ… بدولةٍ من الخارج.