-1-
تَمَنَّيْتُني أبعَدَ عنه فأراه أوضح، أو أبعدَ عن قلبه فأقرأَه أكثر، إذاً لاستطعتُ أن أنفصَمَ بيني وبيني، فيكتبَ عنه قلمي دون قلبي.
هذا رجلٌ لا حِيادَ معه: إما أن تكونَ في قلبه فأنتَ أخوه، أو أن تكونَ في عقله فأنت صديقُه. أما أن تكون خارجَ قلبه وعقله، فعلاقتُه بكَ شديدةُ الدبلوماسية: بسمةٌ صَبُوحٌ من الشفتين، وتَهذيبٌ في الوجه دون القلب والعقل.
-2-
منذ عرفتُه، قبلَ عشرين عاماً، وهو ما زال هو. غير أنني، منذ عرفتُه، لَم أَعُد أنا أنا. فمن علامات هذا الرجل أن يؤَثِّرَ فيك عقلياً ووطنياً، وخصوصاً عندما يكونُ التأَثُّرُ والتأْثيرُ على مستَويَين ولا أعلى: القِيَم ولبنان.
وإذا استثنيتُ سعيد عقل، مَن تَتَلْمَذْتُ على شِعره قبل أن أعرفَه، وعلى لبنان اللبنانِي مذ عرفتُهُ، ليس في مسيرتِي الأدبيةِ والوطنيةِ مَن أثَّر في شخصي وشخصيّتِي كفؤاد الترك.
-3-
كلُّ قولٍ مني فيه، يظلُّ دونَ بلاغة فِعْله. ولو أنصفتُ، لأَقفلتُ على قلمي كلَّ كلام، واكتفيتُ من كلمتي فيكم بقراءة مقاطعَ من أقواله، أو مِما شهِد كبارٌ، لبنانيوهم والعالَميون، بِمَن قالوه “أمير الدبلوماسية”، وسَمَّوه “أديب السفراء وسفير الأدباء”، لكونه في الدبلوماسية أديباً مترفَ الكلام نَدِيَّه، وفي الأدبِ دبلوماسيَّ الكِلْمة بارعَها، منطبقاً عليه الأدبُ بشِقَّيْه: الأدب الأخلاقي والأدب الإبداعي، ومنطبقاً عليه لقبُ السفير بشقيه: الْمسؤول الأمين والرسول الْمتطوّع لا لِخدمة بلاده أفقياً ومهنياً وحسب، بل لِشَعِّ تراثِها العظيم في حيثما يكون.
ولو انّ عليَّ اختصارَ حضورِه اللبناني في العالَم، طوال سنِيِّ خدمته، وحضورِه الدولِيِّ في لبنان بعد عودته النهائية الى الوطن، لقلتُ إنه، ولا أُبالِغ، “مفردٌ بصيغة الْجمع”.
– 4 –
إنّ للخدمة نُبْلاً ومقاييسَ شرفٍ لا يعرفها إلاّ رجالُ الشرف ونبالة. وفؤاد الترك سفيراً لَم يكن موظفاً للبنان لدى الدول، بل كان ولا يزالُ مرصوداً على خدمة بلاده. وإذا قدَرُ الْمرصود ألاَّ يفكَّ الرصد، فقدَر فؤاد الترك أن يُحِبَّ لبنانَ ويَخدمَ تراثَ لبنانَ وصورةَ لبنانَ البهية، ولا ينتظرَ بالْمقابِل شُكراً من لبنان، على مثال البجَع الأب الذي طاف فوق الْموج بَحثاً عن فُتات لصغاره، حتى إذا لَم يَجِدْ عاد الى الصخرة حيث هُم، حَطَّ عليها، تَحلَّقوا حوله، غرَزَ منقاده في صدره، سلَخَ قلبه وَوَضَعَهُ على الصخرة، فأكَلُ الصغارُ، وهو لوى عنقه وهوى، غيرَ منتظرٍ شكراً من صغاره الْجياع وقد شبِعوا.
– 5 –
وإذا كان لا بُدّ هنا من شُكْرٍ ولو غيرِ مقصود، على رداءةٍ مقصودةٍ جداً، فالشكر لذاك الوزير الْمتنفِّذ الذي غضب لعدم استشارته في تعيين الأستاذ الشاب في التعليم الثانوي فؤاد الترك رئيساً بالوكالة لدائرة التربية في البقاع، فسعى لدى الْمراجع العليا بإلغاء مرسوم التعيين، مهدداً باستقالته من الْحكومة. وإذ لا يَجمل بالْحكم أن يَرفض طلب وزير في الْحكم ولو كان مُجحفاً بالْحق والْحقيقة، أُلْغِيَ التعيين. وشُكْرنا لذاك الوزير أنه خلق لدى الشاب ردّة فعل غاضبةً حَملته ذات مصادفة الى قراءة إعلانٍ في الصحف عن مباراة تُجريها الْخارجية لتعيين دبلوماسيين جدد. فإذا بالشاب الْحامل الإجازة في التاريخ والْجغرافيا (من الْجامعة اللبنانية الكان من الدفعة الأولى لطلابِها عند تأْسيسها، بل أولَ طالبٍ ينتسب إليها، ولاحقاً أولَ رئيسٍ لِلَجنة طلابِها، فأولَ رئيس لرابطة خرّيْجيها) يتقدم من الامتحان ويَحُلُّ الأول في الناجحين، فيخسره سلْك التعليم (أستاذاً كان سيمضي حياتَه بين لوح الصف وألواح التلاميذ ثُمّ يتقاعد ويَمضي لا يذكره أحد إلا حفنة من تلاميذه)، وربِحَه السلك الدبلوماسي سفيراً لا فوق العادة وحسْب، بل خارج العادة، ملأ لبنان في حيثُما حلّ، وكلّما غادر بعثةً ترك فيها “تركياتٍ” غدت بعده نَهجاً ومناهج، حتى إذا تَبَوَّأَ الأمانة العامة في واحدة من أصعب فترات لبنان، كان نقطة تَماسٍّ بين السياسة والدبلوماسية والوظيفة: أقلَّ من وزير خارجية مسمّى، وأكثرَ من أمين عامٍّ معيَّن.
– 6 –
منذ مطالعه الدبلوماسية، سكرتيراً فقنصلاً فقنصلاً عاماً فسفيراً فوق العادة فأميناً عاماً، اختطَّ لِحياته الْمهنية نَهجاً لا الى انْحسار: “تَصَلُّبٌ في الْمبدأ، ومرونةٌ في الأُسلوب”. وهو هذا ما حَرَزَه ذات كان سفيراً في باريس وعرفَ لبنان حكومتين، فاشتّقَّ من فكره السياسي معادلةً لا الى جدال: ليس في لبنان مَن يَملك كلّ الْحق وكلَّ الْحقيقة، لذا لَم يشأْ أن يكون بكُلِّيَّتِهِ لواحدٍ من الطرفين الْمُتنازعين، يعطيه الْحقَّ دون الطرف الآخر. هكذا أنقذ السفارة في باريس من أضرار العاصفة، إنّما كلّفه ذلك إجراءً ظالِماً من الطرفين معاً. ولقاؤُهُ – غيرُ الْمعلَن فترتئذٍ- مع الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتّران، أكّدَ حكمته سفيراً، وصوابيةَ رؤيته وموقفِه والنظرة.
– 7 –
ومنذ مطالعه الدبلوماسية كذلك، ترسَّل للخدمتَين: خارجيةِ لبنان، وتراثِ لبنان في الْخارج، مؤمناً بأنّ لبنان ليس هذا “الوطن الصغير” كما يتغرغر جهلاً بالعبارة بعضُ السياسيين، بل هو “بلدٌ جغرافياً صغيرٌ” يعوَّض بالإبداع عن صغره الْجغرافي والديْموغرافي. لذا راح، سفيراً، يعمل على ما تعتمده الدول الصغيرة في العالَم: تَحويلُ الضوء الى مبدعيها ومشاهيرها والْخلاَّقين، فكانت تلك مهمتَه الأولى في البعثات التي رَأَسَها، توازياً مع الأعمال الإدارية الْمطلوبة من السفير (تقاريرَ وبياناتٍ وحقائبَ الى قصر بسترس). وإذا هذه، مهنياً، تذهب الى التنفيذ (إذا قُرِئَتْ) فإلى الْحفظ في الأدراج والْملفّات، فالْمهمة الأولى تذهب الى ذاكرة الناس، وتُنَفَّذ في وعيهم، وتؤُولُ الى الْحفظ في العقول والقلوب والنفوس، فتروح تتفعَّل وتتفاعل، جيلاً بعد جيل بعد جيل، حتى يتواصل َ لبنان الإبداعي الى أجيال لبنان.
– 8 –
هكذا كان هذا السفير يؤدي – مُوَظَّفاً – واجبه تِجاه خارجيّته، ويؤدي – رسولاً – ضميره تِجاه وطنه، ومبدأُه الأسطعُ في شَمس الْحقيقة: “أنا عامل عند ربِّ عمل واحد هو لبنان”. ومن مبدإِه هذا، تصومَعَ في الدبلوماسية، فترسَّلَ طوباوياً للبنان، بوساعةِ معرفة، وعمقِ ثقافة، وسُموِّ أخلاق، وتَرَفُّعِ إباء، وشَممٍ أرزيٍّ، وصبرٍ على الْحوالك أعجوبِي.
عشرون عاماً (بين أوتاوى وبوغوتا وبيروت والأميركتين وبعض أوروبا وجولتين اغترابيَّتين على أفريقيا) كرَّسَت في عالَم الانتشار اللبنانِي تَوَهُّجاً أَلَقَه: مثالياً أنوفاً، بَنَّاء طُلَعَة، وحاضراً دؤُوباً، في إجْماعٍ حوله قلّما ينافحه فيه أحد.
وتلك العشرون، الى خَمس سنوات في طهران، زمنَ التحوّلاتِ وإيرانُ على فوّهة بركان، تكرَّس خلالَها دبلوماسياً من طراز مغاير، هو الذي واكب ثورتَها سفيراً ومُحلّلاً، وبات بين أقرب الْمقربين إلى رجالاتِها، عميدَ السلك الدبلوماسي فيها، وتقاريرُهُ من هناك هي اليوم في الْخارجية اللبنانية وثائقُ شاهدةٌ على سِعَةِ اطّلاعه، ودِقَّة معلوماتِه، وصِحَّةِ تَوقعاتِه، إلى حدْس مهني احترافِيٍّ لا يُجاري.
– 9 –
ربعُ قرنٍ مُحترفاً في الْخارج، سفيراً لدولة لبنان ورسولاً للبنانَ التراث، أهّله لاستلام الْمهمة الأدق في الْمرحلة الأدق من تَشَرْذُمِ لبنان سياسياً: الأمانة العامة لوزارة الْخارجية، قادها دبلوماسياً وإدارياً، وأنقذَ وَحدَةَ السلك داخلاً وخارجاً حين الإداراتُ الرسْميةُ مُشَلَّعَة. وببراعة الْمحترفِ الْخبير، البارعِ في استنباطِ الْمخارجِ اللازمةِ في الأوقات الْحَرِجَة، أبقى الْخارجيةَ في منأىً عن التجاذبات، كأنّها جزيرةٌ هادئةٌ متصالِحةٌ في بَحر التصادمات السياسية، فَبَقِيَت الوزارة تقوم بِمهماتِها الإدارية والدبلوماسية والْمهنية، ولَم يُسَجَّلْ حَدَثٌ مُخِلٌّ واحد لا في إدارتِها الْمركزية ولا في أية قنصليةٍ أو سفارةٍ للبنان. وأكثر: جعلَ قصرَ بسترس مِحوراً ومرجِعاً ومثالاً، فَأَوْجَدَ دُرْجَةَ الْمراسيم الْجوّالة، مُخترقاً بِها حواجز الانقسامات السياسية، وقام بأوسعِ حركةِ مناقلاتٍ دبلوماسيةٍ شَمَلَتْ دَفعةً واحدةً معظمَ السُّفراء والدبلوماسيين، وقّع عليها أركانُ الدولة مُجتمعين بدون أن يَجتمعوا، وهو ما ترزح تَحته الدولةُ اليومَ وهي غيرُ منقسمة. يومها، “سعادة الأمين العام” كان وزير خارجية الظل، مَمنوحاً ثقة الوزير الأصيل، وكان أميناً عاماً لدورٍ أكبرَ من الْخارجية، متنقِّلاً بين الـ”هنا” والـ”هناك”، بين رئتي بيروت ومنبر الأمم الْمتحدة والْمحافل الإقليمية والدولية وعواصم العالَم. ويوم سُئِلَ لبنانُ الْمشاركةَ في مؤتَمر السلام عام 1987، صاغَ موقفاً موحّداً جال به على رؤساء الْجمهورية والْحكومة والْمجلس النيابِي، قَطَفَ له تواقيعَهم، منفصلةً عليه، مُجتمعةً على ورقة الْمذكرة التي، يومَ سُلِّمَت الى الأمين العام دوكويار، ذُهِل لقراءته عليها مُوافقة الثلاثة الْمُجتمعين في الْمذكرة والْمتفرِّقين على أرض الوطن. وكانت تلك، يومَها، واحدةً من مآثر حِكمةِ فؤاد الترك في قيامِهِ بتحرُّكاتٍ شَمّاءَ وطنيةٍ، أرست دعائم الْحفاظ على وحدة الدبلوماسية اللبنانية، هو الذي لَم يعمل يوماً إلاّ للبنانٍ واحدٍ وحيدٍ موحّد.
– 10 –
وفيما يسري عن الدبلوماسيةِ أنّها تعني لدى البعض مراوغةً وخداعاً، بل كذِباً أحياناً، بِحُجَّة أنّ “السفيرَ رجلٌ شريفٌ يكذبُ من أجل مصلحة بلاده”، أسرى فؤاد الترك عن السفير ألاّ يقول كل ما يعرف، ولكنه متى قال، قال الْحقيقة. ومن يومِها سرى في الناس شعارُهُ الْمعروف: “إذا اصطدمَت الدبلوماسية بالْحقيقة، أضحي بالدبلوماسية من أجل الْحقيقة”.
هكذا في الْخارجيةِ كان (سفيراً في الْخارج، أو أميناً عاماً في قصر بسترس): موسوعةً مصغَّرةً لكل سؤال، وبأيِّما نضارةِ تعبيرٍ، وبأَيِّما دماثةٍ في الردٍّ بشوشٍ، وبأيِّما وضوحِ رؤية، وبأيّما شعاراتٍ غيرِ طنانةٍ منبريةٍ، ولا لفظيةٍ برّانيَة، بل سلخٌ من نبض تَجربةٍ ثَمنُها عمر من الْخبرة الناضجة.
– 11 –
في برن، ذات أمسيةٍ سويسريةٍ هادئة (عشية انتهاءِ مسؤوليته في سويسرا ومَهامِّه الرسْمية في الْخدمة) كنا نَمشي معاً في منعرجاتٍ خضراءَ حافيةٍ إلا من النظافةِ والْجمال، فالتفَتَ إلَيَّ بعدَ صمتٍ ضَجوج، وبادرنِي: “عندي، بعدما أُنْهي خِدمتي وأعود نِهائياً الى لبنان، تطلعاتٌ للبنانَ الْمقيم، ومشاريعُ للبنانَ الانتشار، أقوى مِن التي قمْتُ بِها وأنا في سلْك الْخدمة”. والتفتُّ إليه، فإذا على وجهه، كصفاء ثلج صنين، ملامحُ وطنٍ يَحلم دوماً به: طليعياً مغايراً، لا يتشوَّه وجهُه بِحَريق لأنّ الْحريقَ لا يَمسُّ منه سوى البشَرَة، أما الصدرُ فصامدٌ لأنه ابنُ الْحقيقة، والْحقيقةُ لا تُمَسّ. فلبنانهُ لا يَجدر أن يَحكمَهُ إلا مَن هو الأعرفُ والأشرفُ والأجرأ، وعلى شعبِه أن يعرف كيف يُميُِّز في حُكّامه ومسؤوليه بين رجل السياسة ورجل الدولة: رجل السياسة يعمل للانتخابات الْمقبلة، ورجل الدولة يعمل للجيل الْمقبل؛ رجل السياسة يعمل كأنَّه يَملك الوطن (عشيرةً، أو إقطاعاً، أو مزرعة) بينما رجل الدولة يعمل بأنه هو مُلْك الوطن. هكذا لبنان الذي يَحلُم به فؤاد الترك: ليست الآدمية فيه صفةً للتباهي والتمايُز عن الغير، بل هي طبيعةٌ بديهيةٌ تلقائية. إنه لبنان يبنيه من يَجعلونَ دولته قادرةً عادلةً طَموحاً، تقوم على تأمين حقوق مواطنِها الذي – في مناخ من الْحرية والعدالة – إذا ما وصل الى حقوقه من تعليم ورعاية صحية واجتماعية وسكن وعمل وضمان شيخوخة، تكون هذه الْحقوق وصلت الى جَميع الطوائف من دون مُحاصصات وكوتات وتْرُويكيات وتدخُّلات وتسييسات وطوائفيات.
– 12 –
تلك الأمسية السويسرية، طبعتْني مرتين: أُولَى، بأنّها أعطتْني مطالعَ قصيدتِي عن جيش لبنان (وكنتُ أتَهَيَّأُ لكتابَتِها وإلقائها في مناسبةٍ تَخصُّ جيشَنا البطل، فمنحني يومها سعادة السفير أفكاراً لبنانيةً دخلت جَميعها في القصيدة، وأهديتُهُا له يومَ ألقيتُها)، والْمرة الأخرى طبعتني برسوخ قناعتي أن هذا الْماشي حدّي في تلك الضاحية من برن، لبنانِيٌّ غيرُ عادي: ليس موظفاً ينتظر سن التقاعد كي يرتاحَ من الوظيفة، بل رسولٌ ينتظر انتهاء خدمته في سلك الوظيفة، لينضوي الى سلك أكبرَ في مهمة رسالية: لبنان ودنياه في العالَم. فآفاقُه لا يَحُدُّها عُلُوّ الكفاءة الدبلوماسية وحدها، بل تنفتح على لبنان اللبنانِي في العالم، أمبراطوريةً لا تغيب عنها الشمس، في سطور عن لبنان الانتشار ستبقى مرجعاً ومصدراً ومآلاً، هي الصادرةُ عن خبير في جوالينا ولبنانيينا، تاريْخاً وجغرافيةً ومرافقةً وثقى لَهم: طاقاتٍ وتطلعاتٍ، مشاكلَ وحلولاً. وندر من مثلُه، في هذا الشأْن الاغترابي، يعرف الـ”كيف” والـ”لِماذات”.
– 13 –
هذا هو فؤاد الترك الذي تَمَنَّيْتُني أبعدَ عنه فأراه أكثر، أو أبعدَ عن قلبه فأقرأُه أكثر، هو الذي طبع في شخصي قِيَم لبنان، وطبعَ في شخصيتِي سُمُوّ قيَمٍ خُلُقِيَّةٍ وإنسانيةٍ ولبنانية، كان هو تشرَّبَها بِتَخَرُّجه من بيت حنا الترك ولطيفة الْهندي في حوش الأمراء، وتَخَرُّجه من زحلة الشعر والشعراء وفي صدارتِهم سعيد عقل، وتَخرُّجه من تراث لبنان اطّلع عليه في مطالعه وما زال حتى اليوم يطالع ينهلُ من صفحات سِفْره التاريْخي.
يَعصاكَ ألاّ تُعْجَبَ منها جَميعِها، تلك القيمِ العاليات الشهامةِ والشمَم، تَجَمَّعَت فيه بأيّما رسوخٍ سنديانِي، فصهَرها بشخصه وشخصيته: كاتباً صائغَ الْحذاقة، يتنخَّل الكِلْمَةَ حَفْراً في الذائقة والضمير، خطيباً على بلاغةِ قولٍ وإيْجاز ومضٍ وبراعةِ إلْماح، وجليساً مُمتع الْحوار والْمحاورة والتحاور، حتى لتنتَفي عنده الْحدودُ بين سؤالٍ وجواب، فينضحُ من كلامه بُعدٌ ثقافِيٌّ وحضاريٌّ ومهنِيٌّ ومسلكيٌّ يَجعل خوض الْموضوعِ معه، أَيِّ موضوع، سائغَ الْمِتعَتَين: مِتعة الاستماع ومِتعةِ التلقي.
– 14 –
ولعلّ هذا رأْسُ ما حفز من كتبوا عنه وفيه، رجلاً يعاد إليه في استنهاض الوطن، لَم يُمالقْه قلَم، ولَم يسايرْه رأي، ولَم يُحابِهِ عرّيف، ولَم يُجامله خطيب. إنه بساطةٌ تستقطب بساطة، فكلامُ القلب إلى القلب يفضح الصياغات البرانية.
هكذا كلامه البسيط استقطب الأقلام والكتّاب والْمحلّلين والإعلاميين، يقطفون منه، ويرددون، شعاراتٍ سَرَتْ مثالاً بِها يُحتذى ويُستشهَد. فكم مرةً قرأنا في التصاريح تَمثُّلاً بأقواله، وأفكارِه في مسألةٍ لبنانية، أو في اللبنانولوجيا عامة، وكم مرّة استعار منه كاتب كبير أو صحافي مُميز (ميشال أبو جودة، مثلاً، وغير مرة) بعض شعاراته الذائعة الصيت) أو نَفَحه صحافيٌّ كبير بشهادة ضمير، كقول نقيب الصحافة اللبنانية مُحمد البعلبكي (1988): “كنتَ رجلاً في مؤسسة، فانقلَبْتَ مؤسسةً في رجل، لأنّك تتقن لغةً واحدةً خاطبْتَ بِها العالَم، هي لغةُ لبنان الصدق والْحق والْحضارة والْحرية، حرية القول والفكر والإيْمان والْمعتَقَد”، أو قول رفيق خوري (1988): “السفير فؤاد الترك ينادي السفراء الْمعتَمَدِين في بيروت فيَجمَعُهُم كوزير، ويُخاطبُهُم كرئيس”. وفي السياق نفسه، قال فيه غبطة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير: “السفير فؤاد الترك هو أحد مُهندسي سياسة لبنان الْخارجية”.
– 15 –
وفي غير سياقٍ آخر، كم سَمعنا أو قرأْنا من شعاراته وأقواله، ومنها: “علينا الانتقالُ من دولة الْمذاهب إلى دولة الْمواهب، ومن حقوق الطوائف إلى حقوق الإنسان”، ومنها قوله: “يوم نؤمِّن للمواطن اللبناني حاجاته الأساسية، في ظل ديْمقراطية حقيقية وحرية مسؤولة، تصل إلى حقوقها جَميع الطوائف”، أو قوله: “يَجب التمييز دائِماً بين الشأن السياسي والشأن الوطني”، أو مقولته: “الفرق بين الذكي والعبقري أن الذكي يوصل نفسه إلى غايتها، والعبقري يوصل وطنه إلى غايته. ولبنان متخَمٌ بأذكياء يوصلون أنفسهم”، أو قوله ذات فترةٍ من سنوات الْحرب القاسية: “كنا نقول إنّ أخطر ما في الْحرب أنْ نعتاد عليها، واليوم نقول إنّ أسوأَ ما في الْحرب ألا نتعلّم منها”.
وفيما كان الْمسؤولون الأجانب زوار لبنان، وسفراء الدول الْمعتَمَدون في لبنان يتغرغرون ببغاوياً بأن دوَلَهم تَحترم “سيادةَ لبنان ووحدتَه واستقلالَه وسلامةَ أراضيه، وأنَّ السلام في الْمنطقة لن يكون على حساب لبنان”، أعلن هو شكّه في أقوالِهم معتبراً أنّ “تكرار التأكيد على الأمر، دليلُ الشك فيه”، وأنّ “كلَّ الْخشية أن يكونَ الْمُعلَنُ غيرَ الْمستتر والظاهرُ غيرَ الباطن”.
ويوم وقف خطيباً في الذكرى الْخامسة والسبعين لإعلان دولة لبنان الكبير وإزاحةِ الستارة عن نصب بطرك لبنان الكبير الياس الْحويك، أطلق في خطابه شعاره الصاعق: “يَجب أن نَحذف من قاموسنا السياسي والوطني والاجتماعي عبارة “التعايش والعيش المشترك” لأن التعايش والعيش المشترك يكونان بين شعبين، ونَحن على هذه الأرض شعبٌ واحدٌ منذ مئات السنين”.
– 16 –
هذا هو الرجل الذي سَمعتُه يَحلُم ذات أمسية بوطنٍ له غير عاديّ، لأنه، هو، مواطنٌ غيرُ عادي: إذا كَتَب ارتقصَت به الكلمات، وإذا خَطَبَ ترنّح به الْمنبر، وإذا تَحدَّث شدَّكَ إلى الشكل والْمضمون، فالشكل عبقٌ أنيق من أرج البلاغة والفصاحة، والْمضمونُ ثقافةٌ واسعة تتيح له أن يسكب عليك جديداً أياً يكن الْموضوع: في الشعر والأدب والفن، في البيئة أو الاجتماع، في الانفتاح الفكري، في الوطن والسياسة والشأن العام.
بعدها، لا عَجبَ أن يكون مرجعٌ دينِيٌّ كبير، ورئيسٌ لِمجلس النواب، ومسؤولون كبارٌ في الْحكم وخارجَه، وصحافيون لبنانيون مراجع، رشّحوه عام 1988 لرئاسة الْجمهورية.
– 17 –
رشَّحوه؟ شكراً لبادرتِهم ذات النوايا الطيّبة. لكنَّ الْحقلَ كان طوباويَّ الْحلم، والبيدرَ كان ضئيلَه بل شحيحَه. فيوم أنْهى سِنِيَّ خدمته في السلك الْخارجي، وعاد لِخدمته الداخلية بالانصراف الى العمل في الْحقل الوطني العام، وتَحقيقِ بعضِ ما كان أسرَّ به إلَيَّ في تلك الأمسية السويسرية، وأعلن ترشيحَه للانتخابات النيابية في زحلته وبقاعه، أَشْكَلَ على الكثيرين أنه آتٍ الى ورشة بناء الدولة، لا الى عضوية نادي “بيت بو سياسة”، فاشرَأَبَّت في وجهه دينوصورات السياسة، ناشبةً مَخالبَها في صرخةِ ذُعْرٍ أنْ “أوعى… إياكم وإدخال هذا الدخيل الى نادينا”، فتأَلَّبَت عليه العواصفُ بين ترغيبٍ وترهيب، لا خوفاً على شعبيةٍ يَخسرونَها، بل خشْيَةً من نظافة كفِّ ستكون فضيحتَهم لو هي دخلت وأمثالُها الى مِحور ساحة النجمة. ورغم تلك الصرخة الْمذعورة، حصد 17200 صوت، في وجه لائِحةٍ ضَمَّت يومها سبعة وزراء ونواب وثلاثة ملايين دولار.
وفي بداية العهد الْحالي طُرح وزيراً في أول حكومة. وفي صحف تلك الْمرحلة، نَجد اسْمه ثابتاً متكرِّراً في جَميع التشكيلات، وترجيحاتُها راشِحَةٌ من مصادرها العليا. ولكنَّ حرباً شرسةً شنّتْها عليه لا طائفةُ الروم الكاثوليك التي تعتز بانتمائه إليها، بل جِهاتُ مُكرَّسين سياسيين فيها خافوا على كراسيهم الْمكرّسة.
– 18 –
هكذا لَملَمَ أحلامه ببناء لبنان الدولة، وأدار ظهره لِمنطق لبنان الْمزرعة والعشيرة والإقطاع، وانكَفَأ الى صمته، يعزِّيه أنْ ليس في التاريْخ سقراط واحد، ولا كزانتيبّي واحدة.
انكفأَ، ولَم يكفر. وعلى مثال غاليليه الذي انكفأ قائلاً “ومع ذلك هي تدور” (وثبُت بعده أن الأرض فعلاً تدور)، لَم يكفر فؤاد الترك بلبنان، بل ما زال يؤمن بلبنانه هو، لبنانَ الْحقيقي: لبنانَ القيَمِ والإرثِ والْحضارةِ والتاريْخٍ، لبنانَ اللؤلؤِ الذي يرغو فوقه زبدٌ عابرٌ كثيرٌ يغطيه لكنه لا يُلغيه، لبنانَ الذي سيُدحرجُ الصخر على يوضاسييه الداخليين والْخارجيين والْخوارج، لبنانَ الذي ما زال مُحتمِلاً فريسيِّي القياصرة والبلاطسة، لكنه سينتفضَ غاضباً ذات يومٍ فيحملُ السوط وسطوةَ أرزه ويدخلُ صارخاً في سَماسرة الْهياكل: “أنا وطنُ الْحقِّ والْحقيقة، وأنتم جعلتمونَنِي مزرعةً لإقطاعكم وعشائركم ومَحاسيبكم وعملائكم تُجارِ الشعوب. أخرجوا مني أيّها الكَذَبَةُ الدجَّالون”.
– 19 –
يومها، سيذكُرُ الْمؤرّخ الْمُنْصِف أن رؤيوياً كان حدَسَ بِهذا اليوم، لأنه استطاع أن يَجمع في شخصه بَحراً من الْمعرفة، وفي شخصيَّتِهِ موجاً من جاذبيةِ الروح، وأناقةِ الدماثة، وحسِّ تواضعٍ مُرْبِكٍ من رهافةٍ ونقاء قلب، ووجهٍ باسمٍ على صفاءِ مَحبةٍ ومتانةِ صداقة.
وسيكتب الْمؤرّخُ، يومَها، أنّ ذاك الرؤيويَّ لَم يكن رجلاً فرداً، بل كان في عصره مفرداً بصيغة الْجمع، وتلك ظاهرةٌ لا تنجَمِعُ هكذا إلاّ في مَن كانت له، ونادراً لِسواه، ريادةٌ في اللبنانولوجيا، في قامةٍ اسْمُها… فؤاد الترك.