يوم سعيد عقل
جامعة الروح القدس- 19 تشرين الثاني 2014

20141027SaidAkl_Page_1 20141027SaidAkl_Page_2

“يوم سعيد عقل”

المركز الأَعلى للبحوث – جامعة الروح القدس الكسليك (19 تشرين الثاني 2014)

هـنري زغـيـب: “100 ساعة مع سَعـيـد عـقـل”

المقدمة:

في مطلع حياتي الأَدبية، رُحتُ أُتابع الأَدبَ اللبناني بأَبرز أَعلامه شعراً ونثراً. لم أَطالع نصوصَهم أُفقياً، بل توغّلتُ في نسيج النص، أَتبيّن ارتداءَ الفكرةِ أُسلوباً، أَو الصورةِ تعبيراً، أَو المعنى تركيباً، كي أَبحَثَ لدى كلّ أَديب أَو شاعر عن هُويّـتِه الأَدبـية، واشتغالِه على النص لا باعتماد اللغةِ وسيلةً لنقلِ المضمون، بل غايةً في ذاتها تَجعل المضمون أَنقى وأَبقى. فالأَدب ليس “ماذا نكتُب” بل “كيف نكتُب ماذا”. وبهذه الـ”كيف نكتُب” يتميّز كاتبٌ عن آخَر وشاعرٌ عن سواه، فيبتعدُ الأَوّل عن السرد البارد ويباعدُ الأَخير عن النظم المقنَّع بالوزن والتفاعيل.

نادراً ما وجدتُ لدى أُدبائنا وشُعرائنا اهتماماً بالتركيب (وهو سرُّ الـ”كيف نكتُب”) اهتمامَهم بالصورة والمعنى والمضمون.

ونادراً ما وجدتُ لدى سعيد عقل نصاً ذا صورةٍ ومعنى ومضمونٍ دون العناية بالتركيب.

وبعدما فــتَّحْتُ عُــرَى أُسلوبه دُربةً دُربةً بُلوغاً إِلى أَدواته اللغوية، كما نفتّح الوردةَ بتلةً بتلةً وصولاً إِلى ينبوع العَــبَــق، رحتُ أُعيد قراءةَ نثره (“كتاب الورد”، لبنان إِن حكى”، “كأْس لـخمر”، …) وقراءةَ شِعره (“بنت يفتاح”، “قدموس”، المجدلية”، “رندلى”، أَجمل منك؟ لا”، …) فأَستسيغُ نصَّه أَكثر، لأَنني بِـتُّ أَجيءُ النص وأَنا عالـمٌ بمفاتيح تراكيبه، مدركٌ ثناياها ونسْجَها، متـبـيّـناً كيف شاعريتُه تَلِدُ القصائدَ وتجترحُ النثر.

          منذئذٍ رحتُ، بمعرفةٍ أَعمق، أُتابع مُحاضراتِه وأُمسياتِه ومداخلاتِه ومشاركاتِه في مناسباتٍ أَدبيةٍ ومهرجاناتٍ شعريةٍ وندواتٍ ثقافيةٍ ودروسٍ جامعيةٍ وجلساتٍ وسهراتٍ ولقاءاتٍ خاصةٍ لدى أُدباء وأَصدقاء، مراقباً تفكيرَه ومنطِقَه وآراءَه في أُمورٍ إِبداعيةٍ وشُؤُونٍ وطنيةٍ وإِضاءاتٍ لبنانية.

إِلى هذا الحدّ كنتُ بلغتُ من معرفتي أَسرارَ فنّه الأَدبي حين قضيتُ معه ساعاتِ عمَلٍ بَلَغَتِ الـمِئَة: خمسين في بيته (سنة 1993) قطَفْتُ منه ما كشَفَهُ لأَول مرة في حياته عن مراحلَ رئيسةٍ في حياته، نشرتُها حلقاتٍ في مجلة “الوسط” اللندنية (من العدد 58 – 8 آذار 1993 إِلى العدد 67 – 10 أَيار 1993) ثُمَّ جمعْتُ بعضَها لاحقاً في كتابي “سعيد عقل إِن حكى”، وقضيتُ الخمسين الأُخرى (سنة 2006) أَمام كاميرا “تلـﭭـزيون لبنان” حادَثْتُهُ في برنامجِي “سعيد عقل إِن حكى” سحابةَ خمسينَ حلقةً تلـﭭـزيونيةً نشرَ منها على الـمُشاهدين في لبنان والعالم أَفكارَه في مسائلَ فكريةٍ وعلْميةٍ وأَدبيةٍ ووطنيةٍ وحضاريةٍ وتاريخية، وشرَحَ في بعضِها قصائدَ له أَوصلَت مفاصلَ شاعريته إِلى قُــرّائها أَمتعَ استساغاً.

          مداخلتي في هذا المؤْتمر لأَقول فيها ما كان لي من تفاصيل السياحة الذّهنية في تلك الـــ”مئة ساعة مع سعيد عقل”.

* * *

أ) أَوّل خمسين ساعة: لقاءاتٌ في بـيـتـه

الشاعر!

يعرفه الكثيرون بهذا الاسم على أَنه يختصره.

لكنّ القليلين يعرفون أَنّ الشعر سنبلةٌ واحدةٌ من بيدره الكثير. ربما الأَبرز، لكنها ليست الوحيدة.

عرفتُه سنة 1972، ومنذئذٍ أُراقبه يتجدَّد ولا يتوقّف. يواصل الطريق والاكتشاف. لا صفاؤُه تغيَّر ولا نشاطُه. دائماً يأْتي من صِفْر الذاكرة إِلى امتلاء الحضور.

لا يغيب عن باله اسمٌ ولا رقم. من أَقدم تاريخ إِلى أَحدث رقم. من أَول الأَزمنة إِلى آخر الإِحصاءات. يقارع المؤَرخين بالوقائع، والسياسيين بالحجَج، و”يَصدُم بالأَرقام” كما قال عنه غسان تويني.

والأَرقام تعني العِلْم. وها هو يعترف، شاعراً وهو مَن هو في الشِعر:

–       العلْم وراء كلّ تحفة عظيمة. لا تسحرُني قصيدةٌ كما يسحرني اكتشافٌ علمي. حتى الشعر هو ابن العلْم. العلْم يعصمُ من الشرود في القصيدة فتبقى في موضوعها. حين أَتعَبُ من الكتابة أَقرأُ في كتُب علمية.

من هنا أَنّ قصيدته تجمَع باقةً من فضائل وعواطف ومُثُل عليا تشيل بقارئها إِلى أَسمى، فالمناسبة لا تعود سوى مبرر، غزَلاً كانت أَم استذكاراً أَم قولةَ تكريم، لترتدي القصيدة أَبهى الأَفكار وأَنبل العواطف.

شِعرُه والنثر من مقلع واحد: الجماليا. بالإِزميل نفسه ينقُش القصيدةَ والقطعة النثرية.

ومَن تسنّى له، مثلي، أَن يرى واحدةً من مخطوطاته قبل أَن تأْخذ طريقَها إِلى المطبعة، يرى أَن الكلمة المخطوطة مرّت بمصهر من المفردات والمرادفات والتغييرات والتجويد، ما لا يعود مُمكناً لأَيٍّ آخر، غيره هو، أَن يَقرأَ النص بصيغته الأَخيرة.

لا فرق لديه بين نثر وشعر. “كلاهما فن عظيم“، ويشدِّد: “نُهين النثر إِذا قاربناه من الشعر، ونُهين الشعر إِذا قلناه منثوراً“. لذا يُتقن نثرَه إِتقانَه شعرَه. وهذا ما دفع سعيد تقي الدين إِلى القول عنه إِنه “أَعظم من كَتَب النثر في العربية”. وفي السياق نفسه قال أَنطُون قازان: “ما خفتُ على نثره من شعره بل عجبتُ لثنائيةٍ في الإِبداع. هذا القلمُ المطيَّب، حين يقدِّم لرفاقه، يَشدُّهم إِليه بلولبةٍ حدَّ البراعات، حتى لكأَنه هو الـمَعنيّ. سعيد عقل يستحيل أَلاّ يُــرْوِع”.

خمسين ساعةً جلستُ إِليه في بيته، وكان الزمان قصيراً.

وطولُ صداقتنا معاً (منذ 1972) لم يُسعفني مرةً واحدةً في استباق ما سيقول. وما قاله لي، في تلك الساعات الخمسين، كان معظمُه جديداً.

فكيف يمكن أَن نُكثِّف في خمسين ساعةً فكرَ سعيد عقل بهذا الدفْق من المعلومات: أَسماءَ وأَرقاماً وإِحصاءاتٍ، في صفاء ذهنيّ عجيب، وذاكرةٍ دقيقة لا تخون، خصوصاً عن لبنان، هو الذي نذَر عمره من أَجل لبنان:

شلحُ زنبقٍ أَنا… اكسِرني على ثرى بلادي.

سعيد عقل إِن حكى…

خمسون ساعةً وأَنا أُدَوّن وهو يحكي.

منذ ثلاثينات القرن الماضي يملأُ اسمه الشِعر. بدأَ حياته تركيزاً على الرياضيات وفي باله أَن يكون مهندساً. وما كان له أَن يدخل عالم الأَدب لولا حادثةٌ وقعت لأَبيه جعلتْه ينتقل إِلى عالم الكلمة ويكون له فيه ما له من شأْن وتأْثير.

روى لي كيف بدأَ يعي الله منذ طفولته الأُولى إِثْر حادثةٍ في البيت جعلتْه يكبر على كُنه الله وتكون له آراؤُه في اللاهوت.

وهو منذ سنته المدرسية الثالثة، إِثر حادثةٍ له مع المعلّمة في الصف، اكتشَف تقصير الحرف في استيعاب اللغة، ما سيبقى في باله حتى يَطْلعَ لاحقاً بثورة الحرف وثورة اللغة.

وعلى نهجِ أَبٍ مُغالٍ في الكرَم والعطاء، واصلَ طريقه فتى يافعاً حتى بلغ الخمسين فأَطلق جائزةً كانت الأُولى من نوعها في لبنان والعالم العربي يُطْلقها شاعر.

ومن تَشَدُّدِه الذاتي صمَّم أَلاّ ينزل إِلى بيروت إِلاّ مثقَّفاً في الأَدب كبيراً. وأَخبرني باعتزازٍ كيف في مطلع شبابه قال عنه صلاح لبكي في زحلة: “يوم ينزل هذا الشاعر إِلى بيروت سنكسر أَقلامنا”. ووعى أَنه مُهَيّأٌ ليكون شاعر عصره، يتأثَّر به لاحقاً حتى الأَكبرُ منه، بشهادة فؤاد افرام البستاني.

ونزل إِلى بيروت، وكان أَوّل مَن تقاضى بدلاً على نشر قصائده في مجلة “المكشوف” وكانت يومها كبرى مجلات بيروت الأَدبيّة، ولم يستطع رفاقه أَن يحذوا حذوه إِلاّ طويلاً في ما بعد.

وحين راح ينشر أُسبوعياً في مجلة “الصياد” ومرتين أُسبوعياً في جريدة “لسان الحال”، كانت مقالاته مرنى المثقّفين والسياسيين في لبنان وعدد من رؤَساء الدول العربية لِما كان يُضمّن مقالاته من إِحصاءات لا يأْتيها سواه.

ويعتزّ بمقطع له من خمسة أَسطر أَنقذ فيه لبنان من مشروع ٍكان يرمي إِلى إِلغاء الضريبة على عهد الرئيس فؤاد شهاب. وفيما كانت صحف بيروت تُهلّل لرقم ميزانية أَطلقه الرئيس كميل شمعون، كتب في مقاله قطعة صغيرة بعنوان: “هذا رقم التعتير” فخجل المهلِّلون.

ومن طرائِف أَخباره أَنْ حبسه المطر ثلاثة أَيام داخل فندق في طهران فلازم غرفتَه وتَرجَم “رباعيات الخيّام” شعراً إِلى اللبنانية، على هامش الصفحة حَــدّ الترجمات العربية والفرنسية والإِنكليزية.

كلُّ مهرجان أَدبي في لبنان أَو في مصر، كان يكرّمه بحفاوة، وتكون قصيدته عروس المهرجان.

وكم يتباهى بصداقته مع عاصي ومنصور الرحباني وكان مستشارهما الأَول ويعترفان معاً بتأْثيره على شعرهما والكثير من مبادئهما في الفن والحياة.

وروى لي ما كان له من بادرة في السماح للشاعر التركي ناظم حكمت بالدخول إِلى لبنان بعدما منعتْه الدولة من ذلك، وكانت له بادرة أُخرى مع الشاعر الرئيس السنغالي ليوﭘــولد سيدار سنغور لدى زيارته لبنان.

وفي حين أَسهم بتكريم كبار الشعراء والأُدباء، أَكَّد لي رفضَه الحازم، وما زال يرفض، أَن يقام له حفل تكريمي واحد.

بين أَغلى ما ركّز لي، خلال جلساتي إِليه، اكتشافُهُ لبنان الحضاري منذ إِيل، وستةَ عطاءات فينيقية خلَقَت أُوروپا، وفضائل فينيقية تسعين، وسبعَ مدُن لبنانية أَرست ركائِز أَساسية في الفكر العالمي، وأَحد عشر لبنانياً عمالقة العالم، إِضافةً إِلى مُثُل يعدّدها في الشعب اللبناني الذي يراه فريداً في البطولة والاحتمال برواقية زينونية.

عشرات الأَفكار والآراء والمبادئ والذّكريات طوال ما يزيد عن خمسين سنةً، جَـمَّعَها لي في خمسين ساعة.

فكيف اختصارُها، هو الذي قال يوماً عن الأَدب إِنه “حبْسُ الدهر في عبارة“؟

حين بدأْتُ أَجلس إِليه تَهَيَّأَ لي أَن سيقول مما سمعتُه منه مراراً في جلساتنا الخاصة أَو محاضراتِه وخُطَبِه. غير أَنّ ذاك كلَّه لم يكن سوى النزْر اليسير. ورحتُ أَسيح معه في آخر اكتشافاته وأَوّل الذكريات، ما بدا لي في نهايتها سعيد عقل جديداً لم أَعرفه منذ عرفتُه في مطلع السبعينات.

في جلساتي إِليه كان دائماً حاضرَ الذّهن والذاكرة، متَّـقد البصَر والبصيرة: شَبَاباً في الحيوية والانفعال، يَفاعةً في الحماسة والتفاؤُل بالغد، مصادَرةً على المستقبل لتحقيق أَحلامه والمشاريع.

لم أَجئْه مرةً إِلاّ وهو جاهز، على قيافةٍ لافتة واستعدادٍ نَضِر.

* * *

أَوّل سؤال بادرته به، عن “نهار سعيد عقل”، فأَوجَز:

–       أَنهض في الرابعة فجراً. يكون القلمُ حدّي والأَوراق. لا أَبدأُ أَبداً بل أُكمل. دائماً حَــدَّ سريري كتاباتٌ أَكون باشرتُ بها قبل النوم. تأْتي السكرتيرة فأُملي عليها ما أَكون هَيَّأْتُه فجراً وصباحاً. يَمضي قبل الظهر في تنقيح النصوص وإِعادة طبعها، وأَحياناً في استقبال أَصدقاء وزوّار. بعد قيلولة قصيرةٍ أَقرأُ كتباً جديدة ومجلاتٍ أَجنبيةً وصحفاً كي أُتابع الأَحداث في العالم. ينتهي النهار إِجمالاً بمحاضرةٍ أَو أُمسيةٍ أُلقيها أَو أَحْضَرها، أَو بزيارةٍ أَو دعوة عشاء، وأَسعى أَلاّ تطولَ سهرتي حتى أَنهض في اليوم التالي إِلى إيقاعي الكتابي اليومي. أَكتُب كلّ يوم. الكتابة تُسعدني، تَخلق بي فرحاً يحافظ على نضارة خلاياي واستمرار تَجَدُّدها. قرأْتُ يوماً في مقالٍ طبي أَنّ الكتابة الإِبداعية تجعل العقل في حالة إِيجابية، أَي في حالةِ فرح، تُؤَثّر على الدماغ فيُفرز مادةً تَتَسرّب من النخاع الشوكي إِلى كل الجسم وتخلُق له حصانة. وهذا مبدإِي في الأَساس: حين أَخلُق قطعةً أَدبية جميلة، أَفرح لها أَنا قبل قارئي.

لعلّ هذا سرُّ النضارة في عقل سعيد عقل، وسرُّ ما لديه من صفاءِ ذهنٍ وتَوَقُّدِ ذاكرة.

رحلةٌ في عقل سعيد عقل؟

متعةٌ ذهنيةٌ يعطاها كلُّ من يُـقْبل على المعرفة بتواضع العلماء وبكارة الاقتبال وبراءة الإِصغاء.

ب) الخمسون الأُخرى: حلقات التلڤزيون

بعد ثلاث عشرةَ سنةً من جلساتي إِلى سعيد عقل في بيته، رغِبَ إِلَـيَّ تلڤزيون لبنان سنة 2006 أَن أُحاورَه أَمام الكاميرا لكوني ضليعاً في شعره وحياته.

اتصلتُ به عارضاً عليه الموضوع فرحَّبَ بالفكرة. سأَلتهُ عن عدد الحلقات التي يتصوّرُ أَن تستغرقَها جلساتُنا، فأَجابَني فوراً: “لا نُحدّد. فلتستغرقْ ما احتاجَت أَحاديثُنا”.

سأَلتُه إِن كان يرغبُ أَن تكونَ حلقاتُنا بـيوغرافيةً يروي فيها مسيرته الحياتية والأَدبية، فرفَض مُعتبراً أَنّ لقاءاتي الخمسين الأُولى معه كانت بـيوغرافيةً فلا داعٍ لتكرارها على الشاشة. وأَضاف: “لا أَرغب في أَن أَحكي عن حياتي. أَفكار سعيد عقل أَهمّ من سيرة سعيد عقل”.

تعيَّن موعِدُ التصوير صباحَ كلّ ثلثاء على أَن نُصوِّرَ في كلّ جلسةٍ حلقتَين.

مُذهلاً كان سعيد عقل في وُصولِه كلَّ ثلثاء على الوقت تماماً، وهو في كاملِ أَناقَتِه المعتادة، من دون أَن ينسى ربطةَ عُنقه الحمراء، إِحدى علامات أَناقتِه.

قبل البدء بالتصوير كُنّا نتّفق على الموضوع الذي سأُحاوره فيه، فيمتدُّ على الحلقة كُلّها، أَي أَنّهُ كان يُمضي الدقائق الخمس والخمسين في الحلقة يتبسّط في موضوعٍ واحد لا يخرج عنه بل يُشْبِعهُ تفصيلاً ودقائقَ وحقائق.

وكان يلفِتُني لديه في كلّ حلقة أَنّه لا يتعثَّرُ في استذكار اسمٍ أَو تاريخٍ أَو معلومةٍ أَو تفصيلٍ عن الموضوع الذي يُحادثُني فيه. وهذا عائدٌ إِلى أَنّهُ، في جلساته الدائمة، يتحدّث في هذه المواضيع ويُكرِّرُها حتّى باتت رفيقتَه اليومية بأَسمائها وتواريخها ومعلوماتها وتفاصيلها. ولعلّ هذا ما أَغراهُ للقبول بتصوير هذه الحلقات، لأَنهُ هكذا يَنشرُ أَفكاره على مساحةٍ أَوسَعَ من الناس، بعدما كان ينشُرُها في حلقاتٍ خاصةٍ أَو محاضراتٍ محدودةِ الحُضور، فالتلڤزيون يُساعدُه على نشر أَفكاره إِلى الجمهور الأَوسع.

تنتهي الحلقة الأُولى. أَسأَلُه إِن كان يرغب في استراحةٍ قبل تصوير الحلقة الأُخرى فيأْبى لأَنهُ حاضرٌ جاهزٌ نضِرُ التفكير مُتأهِّبُ الذاكرة حتى لأَشعر أَنهُ يستطيع الكلام لأَكثر من حلقتَين في جلسةٍ واحدة.

نبدأُ الحلقة التالية لخمسين دقيقةً أُخرى في موضوعٍ آخَر، ويبقى هو هو: الشابّ ابن السادسة والتسعين، الفتيّ الحيوية والحديث والإلقاء بلا تعبٍ ولا تعثُّر.

كان يبقى جَهيراً صوتُه، سلِساً حديثهُ، مُتَسلسلَةً أَفكارُه فتنتهي الحلقة الثانية وهو لا يزالُ في فتوّةِ طاقته الجسدية والذهنية.

بدأَ بَــثُّ الحلقات فكنتُ أَلتقي أَصدقاء إِعلاميين وصحافيين يلُومونني أَنني لا أُناقش سعيد عقل ولا أُجادِله ولا أُقاطعه، بل أَسألُ سُؤَالي وأَترُكهُ يُجيب مهما طال جوابه. لم يزعجُني هذا اللَّوم وكنتُ أُجيبُ بهدوءٍ وقناعة: “أَنا ارتضيتُ أَن أَكون في هذا البرنامج جسْراً تعبُرُ عليه أَفكار سعيد عقل، والجسرُ وسيطُ عبورٍ وليس حاجزَ تفتيش”.

ذاتَ يومٍ التقيتُ صديقاً لي شاعراً كان يُتابعُ حلقاتي التلڤزيونية مع سعيد عقل، فأَخبَرَني كم يستمتعُ بها ويتذكّرُ حين كان طالباً في دار المعلّمين، وسعيد عقل يُدرّسُ فيها، كيف يُمضي معظم ساعات التدريس يقرأُ من قصائده ويَشرحُها.

بقيَتْ هذه الفكرةُ في بالي، فقرّرتُ أَن أَستفيد من وُجودي معه أَمام الكاميرا حتّى يشرح من شعره ونثره للجمهور التلڤزيوني الواسع، بعدما كان مقتصراً على الشرح أَمام طلاّبٍ معدودين في قاعة الصفّ.

عرضتُ عليه الفكرة فوافق شرطَ أَن يكون انتهى من شرحِ أَفكاره الفكرية والحضارية والفلسفية والعلمية واللاهوتية والكونية واللبنانية التي يريد إِيصالها إِلى الناس.

وهكذا كان: أَخذْتُ أَقرأُ له من شِعره ونثره، وأَسأَلُه تحليلَ مقاطعَ وأَبيات، وهو يتبسَّط ويشرح، ما أَثار في المشاهدين شغَفاً أَكثر لـمتابعة الحلقات. قرأْتُ له، مقْطعاً مقْطعاً، نُصوصاً من كتابه “لبنان إِن حكى”، وبيتاً بيتاً قصائِدَ من “رندلى” و”أَجمل منكِ؟ لا” و”المجدلية” وقصيدته الطويلة “فخر الدين”. وكنتُ أَسأَله عن بعض مفاتيحه الشعرية وأَسرار تركيباتٍ له لقيّات مبدعة تُـمَيّزه عن سائر الشعراء، وهو يشرحُ ويشرحُ معنىً ومبنىً وأُسلوباً وتراكيب.

وحرصاً مني على إِيصال كامل نَصّهِ شِعراً أَو نثراً، صوتاً وصورةً، كنتُ في كلّ حلقةٍ أَطبعُ النصّ بحرفٍ مُكبَّر، أَضعهُ على منصّةٍ خاصة أَمام الكاميرا، وأَطلُب من المخرج أَن تُتابع الكاميرا المقطع النثري أَو البيت الشعريّ فيما أَنا أَسألُ سعيد عقل وهو يَشرحَهُ، فكان المشاهدون يرَونَ النصّ في أَسفَلِ الشاشة ويُتابعون سعيد عقل يَشرحه بالتفصيل.

ولعلّ هذا الجزء من حلقاتي التلڤزيونية كان الأَهمّ عندي – وعند الكثيرين من مشاهدين كما كانوا يقولون لي – فليس متوفِّراً أَن يحظَوا بشعر سعيد عقل يشرحه سعيد عقل.

وفيما كنّا نصوّر حلقات البرنامج، ويعرضها تلڤزيون لبنان تباعاً، كانت الـمُتابعةُ تَتنامى، والمشاهدون من لبنان والعالم يتّصلون بالمحطة طالبين إِعادة بـثّ الحلقات.

وبالفعل، بعد نحو عامٍ على البثِّ الأَول (2006) أَعاد تلڤزيون لبنان عرض الحلقات الخمسين، وقال لي مسؤُول البرامج يومها أَنّها استقطبَت جمهوراً أَكثر بكثير من ذاك الذي شاهدها في عرضها الأَوّل.

* * *

خــاتـمــة

مئةُ ساعةٍ قضيتُها مع سعيد عقل تدويناً خطياً أَو تصويراً تلڤزيونياً، لعلّها بين أَمتَع الساعات في مسيرتي الأَدبية.

أَن أَكونَ صديقَ سعيد عقل منذ 1972 وأُتابعَ بعض جلساته الأَدبية والشعرية وأَقرأَ نتاجه، أَمرٌ قد يكون عادياً، لكنّ غير العاديّ أَن تكون لي فرصةُ محاورتِه مهنياً طيلة 100 ساعة استخلصتُ خلالها للقرّاء فالمشاهدين مسيرةً وأَفكاراً لهذا الشاعر الذي يملأُ عصْرَنا شِعراً ولُبناناً.

“سعيد عقل إِن حكى”…

وها هو حكى لي، ومنّي إِلى جمهور القرّاء والمشاهدين، ما سيبقى لجيلِنا وأَجيالِنا المقبلة ذُخراً أَدبياً وفكْرياً وحضارياً عن لبنان من شاعرٍ نَذَرَ نتاجَ فكرِه وقلمِه من أَجل لبنان.

_____________________________

http://www.tayyar.org/Tayyar/News/PoliticalNews/ar-LB/usek-pb-156159738.htm