إِذا صَحَّ أَنّ الأَرقام أَبلغُ مدلولاً من الكلمات – وإِنها غالباً كذلك – يكون مدهشاً ما نكتشفُه في الموسوعة التي أَصدَرتْها الباحثة ليلى بركات جزءاً واحداً ذا 960 صفحة حجماً كبيراً في عنوان “سنة ثقافية خارج القرن: بيروت عاصمة عالمية للكتاب”، والدكتورة بركات كانت منسّقة “السنة” وأَشرَفَت خلالها على 567 مشروعاً و1200 نشاط بين نيسان 2009 ونيسان 2010.
يعنينا من هذا السِفْر التوثيقي الرصين أَنه شهادةٌ على دينامية بيروت خصوصاً وسائر المناطق اللبنانية عموماً، بهذا النتاج الغزير الوفير استقطبتْه مدينتُنا الرائعة التي استعادت أَلَقَها بعد سنوات الجمر، ويمكن أَن تستعيدَه في أَيّ وقت، حين يُتاح لها أَن ترتاح مما يعصفُ فيها من أَحداث وحوادث وإِحداثيات سياسية وأَمنية تُجَـرّح ليلَها بالقلَق ونهارها بالأَرق، لأَن أَهل السياسة فيها، كما في كلّ لبنان، يتجاذبونها لا في اتجاه واحد كي تزدهر بل في اتجاهات متعاكسة كي تندثر وتنطفئَ فيها آخر نقطة ضوءٍ من الثقافة التي هي دائماً أَرقى وأَبقى وأَنقى من كلّ عملٍ سياسيّ في خدمة أَصحابه لا في خدمة الوطن.
في سنةٍ واحدة فقط أَضاء الوسط الثقافي اللبناني أَدباً وشعراً وروايات ومسرحاً وكوريغرافيا وكتُباً ومعارضَ وأُمسياتٍ شعريةً وموسيقيةً وندواتٍ ولقاءات ومهرجانات ومعارضَ ودراسات وإِحصاءات ومنتديات ووُرشاً إِبداعية وتجريبية، تَداعى لها وسط ثقافي كامل بـأَعلامه وإِعلامه وعلاماته وأَعماله وصحافته، فنهض بها لبنان ورشةَ إِبداعٍ من أَدناه إِلى أَقصاه، وهي هذه صورة لبنان الحقيقية حين لبنانُ آمنٌ ساكنٌ تُـتيح سماؤُه توسيعَ الزمان وتتيح أَرضُه إِخصاب المكان، أَي حين يتركه سياسيوه لـمبدعيه يُنتجون من الفردي إِلى الجماعي عكس السياسة من الجماعي إِلى الفردي.
هي هذه رسالة لبنان الحضارية، لا العنف والإِرهاب والذُّل والاستجداء والإِيحاء بالضعف لاستدرار عطف الأُمم والدوَل بل منارة تَستقي منها الأُمم والدول قَـبَساً لها واتّعاظاً ببلدٍ قَدَرُه من أَول تاريخه أَن يكون عنواناً مضيئاً على الصفحة الأُولى من التاريخ.
في جزء واحد من نحو 1000 صفحة: صورةُ لبنان الحقيقي في يَومياته الثقافية تنقُلُه إِلى العالم عكس ما تنقله يَومياتُه السياسية.
إِلى هذه الصورة الحقيقية استندَت منظّمة الأُونسكو لتجعل بيروت “عاصمة عالمية للكتاب”.
وهذه الصورة بالذات تتركها ليلى بركات للبنان وثيقةً تشهد أَن استنهاض الإِبداع في لبنان أَنتج في سنة واحدة 567 مشروعاً و1200 نشاط، وأَنّه قادر كلّ سنة أَن يُنتج هذا الإِبداع شرط أَن يرفعَ عنه أَيديهم مَن يُعيرونه مَلْعباً لسماسِرة الـمُحيط والعالم.