أَخذَتْني في الصحف صورةُ أَطفالٍ في غزّة شهداء، أَشلاؤُهم ممزَّقة وعيونُهم مفتوحة، على الأَمل مفتوحة وعلى الحياة، كأَنما آلةُ القتل الإِسرائيلية التي تسحقهم، تلاعبهم لتدفعهم إِلى الغياب فلا يغيبون بل يموتون وعيونهم مفتوحة.
إِنها العين التي تتحدّى المخرز، التي ترى وستظل ترى قاتلَها وتلاحقُه أَنّى يذهب.
إِنها العينُ الضمير، والضميرُ لا شكل له لكن له طغياناً هائلاً لا فرار للقاتل منه.
العيونُ الغزّاوية التي لن يطفئَها الزمن أَخذتْني إِلى العيون في لوحات “وُجُوه الـفَـيُّـوم”: نحو 1000 لوحة هي الأَقدم في التاريخ، بدأَ آثاريون أَجانب منذ 1888 يكتشفونها في قرى محافظة الفَـيُّـوم (شمالي الصعيد غربي النيل)، تمثل وجوه أَشخاص من القرن الميلادي الأَول رسمها فنانوها لأَصحابها الأَحياء ثم اندفَنَت اللوحة مع صاحبها أَو مع موميائه في الناووس، لاعتقادٍ ديني في تلك الحقبة السحيقة أَنّ الموت ليس نهايةَ رحلة الروح على الأَرض.
من هنا روعةُ النِّظرة في رسم العيون العميقة، المفتوحةِ على الأَمل والحياة رغم وُجُودها مع المومياءات في النواويس، سمّاها أَندريه مالرو “الساهرة على الخلود” لِـما فيها من نِظراتٍ حيةٍ نابضةٍ ولو هي مرصودةٌ أَن تكون مدفونة تحت الأَرض.
تلك اللوحات، وهي طلائعُ الفن الكلاسيكي بمعناه الشاملِ العواطفَ والمبادئَ الخالدةَ، باتت لاحقاً كنوزَ النواويس ونماذجَ أَقنعةِ الموت، وجذورَ الفنّ القبْطي وفنّ الأَيقونات في ما بعد.
بين ميزات هذه الروائع، عدا بُعدها السحري، واقعيةُ رسْمها وعمقٌ في ملامحها يمحو آلافَ سنواتٍ تفصلنا عنها ويُبقي في اللوحة روحَ كلّ شخص بدون أَن يكون الرسّام افتعل براعتَه لتحسين الملامح (كما في التماثيل الإِغريقية أَو الرومانية لاحقاً) بل رسمها بعفويته البدائية وأَظهر فيها جمالاً داخلياً لا يذوي مع تَـحَـلُّل الجسم، ويبقى مضيئاً عبر نِظرة العيون.
هذه النظرات الثاقبةُ في عيون اللوحات، الحيةُ وهي تحت التراب، تأْخذُني مجدَّداً إِلى عيون أَطفال غزة: يقتلهم الوحش الإِسرائيلي ويَهيل عليهم التراب وتبقى عيونهم، من تحت التراب، مفتوحةً تطارده أَينما ذهَب ومهما توارى خلف حُجَجه وتبريراته، لأَن تلك العين المفتوحة هي عينُ الضمير: لا تُغمضُها السنوات ولا القرون، كما باقيةٌ حيةً مفتوحةً عيونُ لوحات الـفَـيُّـوم.
هنا صُوَرُ أَطفالٍ ماتوا وعيونُهم مفتوحة، وهناك أَشخاص ماتوا وخلَّدتْهُم لوحاتُ عيونهم المفتوحة.
لا أُولئك ستنطفئُ الحياة في عيونهم، ولا هؤلاء ستذوي الحياة في رسومهم، لأَنّ الحياة لا تنطفئُ، وتبقى نابضةً في الحقيقة ولَو هوى مستشهداً حاملُ الحقيقة.