يومَ زارها باخوس إِلهُ الخمر أُعجِبَ بِها حتّى هَتَف وهوَ يُغادرها: “أَيّتُها الحسناء، مِن شدّة حُبّي إِيّاكِ لن أَسْكُنَ السماء بعد اليوم، فسُكناكِ أَجملُ من الأُولَمْپ”. بهذه الـهَتْفَةِ السّعيدة ذكَرَ الشاعر اليوناني نَنُّوزْ مدينتَنا صُور، في الكتاب الأَربعين من ملحمته “الديونيسيات”، نسبةً إِلى بطَلِها ديونيسيوس الذي زارَ صُور موطنَ قدموس وأُوروپ فأُعْجِب بجمال موقعها وبهاءِ معالِمِها.
وقبلذاك كانت صُور عروسَ الكتاب المقدّس، مَـجَّدَها إِشَعيا وحزقيال وزكريا وبعضُ المزامير فإِذا هي “صُور المتوّجةُ، تُجّارُها رؤَساء وأَهلُها موقِّرو الأَرض”، وإِذا هي “المعمورةُ من البِحار، المدينةُ الشهيرةُ الْكانت قويّةً في البحر، وسكّانُها سيطروا على جميع جيرانِها”، وإِذا هي “تاجِرَة الشعوب، الساكنةُ عند مداخل البحر”، وورَدَ أَيضاً: “بنّاؤُوكِ تَـمّموا جمالَكِ”، وورَد أَيضاً “أَيّةُ مدينةٍ كصور كاملةِ الجمال”، ووَرَد كذلك: “يا صُور، عندَ خروج بضائعك من البِحار أَشْبَعْتِ شعوباً كثيرة، وبثروتِك وتجارتِكِ أَغنيتِ ملوكَ الأَرض. أَنتِ يا صُور أَغنى الشعوب، كوّمتِ الفضّةَ كالتراب، والذّهبَ كطين الأَسواق”.
بهذه المطالع التاريخية افتتح معن عرب كتابَه “صُور حـاضِرةُ فـيـنـيـقـيـا“ الصادر عن دار المشرق سنة 1970، موضِحاً أَنّ كتابَهُ هذا “أَوّلُ دراسةٍ بحثيةٍ في تاريخ صُور” وأَنّ “آخِرَ كتابٍ عن صُور في لغات أَجنبية مضى على صدورِه أَكثرُ من نصف قرن”.
أَمام هذا القول قبل أَربعٍ وأَربعين سنةً يَلفِت المؤلّف مقالٌ للعالِم الأَلماني أُوتو أَيْزﭬـِلْت في “موسوعة العلوم القديمة”، وَجَدَهُ في مكتبةِ إِحدى الجامعات الأَلمانية التي وجَّهَت عنايَتَها منذُ بداية القرن التاسع عشَر إِلى صُور حاضرةِ فينيقيا وأُمِّ مدائنها.
جَعَلَ المؤلّف كتابَهُ في ثلاثة أَقسام: تاريخ صُور السياسيّ بسكّانها، وعصْرِها الذّهبيّ مع حيرام الأَوّل، والتوسُّعِ الأَشوريّ، والحِصارِ الذي ضَرَبَهُ عليه الاسكندَر لكنّها لم تخضَع، وأَحداثٍ خلال العصر الرومانيّ حينَ نَعِمَت بالسّلم الرومانيّ (Pax Romana).
القسم الثاني خَصّصه المؤلّف لتاريخ صُورَ الحضاريّ بدءاً من هُجرة ابنتِها إِليسار وتأْسيسِها “صُورَ الجديدة” في قرطاجة، مروراً بتجارة صُور وصناعَتِها، وأَسواقِ صُور وأَساطيرِها، ومِلاحة الصُوريين وأَسْفارِهم، وُصولاً إِلى أَعلامٍ من صُور طبَعوا تاريخ العالَم وأَبرزهم: قَدموس معلّمُ الأَبجدية، مارينوس الصُوريّ العالِم الجغرافي الأَوّل وأُستاذ بَطْليموس، أَدريانوس الصُوريّ مُعلّم مارك أُوريل، أُلـﭙـيانوس الصُوريّ أُستاذ الحقوق في مدرسة بيروت، فَرْفوريوس فيلسوف الأَفلاطونية الـمحدَثَة، موخوس الصوري أَوّلُ من قال بتجزئة الذرّة، ومن النساء الصُّوريات: إِليسّا مُنشئَة قرطاجة، وإِيزابيلاّ عمّة إِليسار وبنت إِيتوبعل.
وخصَّص المؤلّف القسم الثالث لصُور العربية مُبرزاً دورَ الدينار الصُّوريّ، وخصوصاً أَيام مُعاوية الذي أَدْرَكَ أَهميةَ صُور والساحل الفينيقي فأَقلَع بأُسطوله من شاطئ صُور ليُهاجم جزُر قبرص ومالطا وكريت، فـصُور، بعد عَسقلان، المدينةُ الساحلية ذاتُ المرفإِ الوحيد على الشاطئ الذي احتفظ به العرب. خَسِرَت صُور بعض وهجها في زمن السلطنة العثمانية، ولم ينجح فخر الدين في أَن يُعيدَ إِليها أَلَقها التاريخيّ. وفي هذا القسم يركّز المؤَلّف على حفريات صُور مع إِرنست رينان وسواه، وما تكشّفَت عنه حفريات 1885 بالعثور على أَوّل كتابة فينيقية من صُور ترجع إِلى القرن الثالث قبل المسيح. من هنا الاهتمام العالميّ بحفّريات صُور التي أَثبتَت أَنّها كانت مهد الأَبجدية ومهدَ مدنيةٍ وحضارةٍ عظيمتَين.
كتابُ معن عَرَب “صُور حـاضِرةُ فـيـنـيـقـيـا“، بنُصوصِه ورُسومِه وصُوَرِه التوثيقيةِ الوفيرة ومراجعِه الكثيرة، سِفْرٌ أَساسيٌّ لاكتشاف صُور حاضـرَتِـنا التاريخية الكُبرى ونافذَتِنا اللبنانية الحضارية على العالَمين القديم والحديث.