قَلَمُهُ طَــيَّــبَ الأَدَب
مقدِّمة هنري زغيب لـجُزء “الأَدب”
في سلسلة مؤَلفات إِدوار حنين الكاملة

 

لم أَكُنْ مستحقّاً خِلافةَ صلاح لبكي في رئاسة “جمعية أَهل القلم”. فهو إِنسانٌ رائعٌ وشاعرٌ رائعٌ وأَديبٌ رائعٌ، وهو صديقٌ ولا أَصدق، لا يجارى كإِنسانٍ وشاعرٍ وأَديب (إِدوار حنين – “سيرة ذاتية”).

تَـمَنَّيتُهُ لم يتواضعْ حتى هذه القمّة من نُبْله.

مع تَبَنِّيَّ رأْيَه في صلاح لبكي شاعراً وأَديباً، لا أَراه دون شاعرية صلاح أَناقةً وصياغةً وبَثَّ لُـمَح.

من فجْر شبابه استَلَّتْه إِلى محرابها الكلمةُ فانقادَ إِليها قائداً بوحَها إِلى خطوة وُثقى: هنا على هُدب قلم، هناك على صَدْحة منبر، هنالك في مُرافعةٍ تَلفِتُ إِليها قوسَ محكمةٍ أَو قاعة ﭘـرلُـمان.

وفي جميعِها بقيَتْ معه الكلمة على وجْهها الـمُضيْءِ ووهْجِها الأَجمل: أَناقةَ بثٍّ، طلاوةَ أُسلوبٍ، جذْبَ سَماعٍ، حتى لترقى إِليه الذائقة الفنية في أَوج خَطْرتها، على الورق أَو من الصوت، زهْوى بـِما لقلَمه أَو صَوته من أَرَجٍ في بال الذاكرة.

بينَه صحافياً، وبينَه محامياً أَو وزيراً أَو نائباً، وحدةٌ في القول وتوحيدٌ في الفعل: ما على قَولَتِه رَيبٌ، ولا إِلى فِعْلَتِه شَوائب.

إِنه الواحد في الإِيمان على جزالة التجربة.

لم تشغَلْه الصّحافة عن الأَدب فكان فيها أَديباً.

ولا شغلَتْهُ المحاماة عن الأَدب فبرع فيها أَديباً.

ولا أَخذَتْهُ نيابةٌ أَو وزارةٌ عن الأَدب فكانت مشاركاتُه في البيانات الوزارية، ومطالعاتُه في الـﭙـرلُـمان، وخُطَبُه في مناسباتٍ وطنيةٍ أَو سياسيةٍ أَو ظرفيةٍ، طالعةً جميعها من يُنبوع الأَدب.

كانت له في أَوساط السياسيين صداقاتٌ وزمالات، وفي أَوساط المحامين وِقْفاتٌ وخَطَرات، وفي أَوساط الصحافة فِلَذٌ من كلمات، تركَتْ بصماتها على أُسلوبٍ باتَ عنوانَهُ قبل أَن يَضعَ العنوان.

غير أَنّ له في أَوساط الأَدب شَأْواً يُغايِرُه عن سائِر الأَوساط. لكَأَنَّه ارتضاه فَباهى وفيه أَقام.

باكراً أَطلّ على الأَدب، شِعرِه والنثر، منذ كان في مطالع الشباب، فنشرَ سنة 1936 “شوقي على المسرح” دراسةً تحليليةً نقْديةً وقَّعها: “… بقلم إِدوار حنين من “ندوة الاثني عشَر”، وضعَ مقدِّمتَها فؤاد افرام البستاني وصدرَت في مجلّة “المشرق”.

ومن “ندوة الاثني عشَر” إِلى “الندوة اللبنانية” إِلى “جمعية أَهل القلم” كان الحضورَ الهادئَ الذي يُـخبِّئ الكنوزَ للأَواتي من الـمفاجآت.

تُراه أَضمَرَ، منذ مطالعه، أَن يكون الأَديبَ في كل ما يَكتُب، وأَنَّـى؟

هذه رحلاتُه يؤرِّخها في نضارة القول فَتَتَلَوَّن الكلمات بالمكان ولا يتغيَّر الأُسلوبُ الطَّلِيّ: من فلورنسا إِلى ديترويت إِلى واشنطن ونيويورك وشلاّلات نياغارا فسان فرنسيسكو، ومن مصر إِلى هونغ كونغ فالصين، ومن ﭘـاريس إِلى ﭘـراغ إِلى الفيليـﭙّـين فهونولولو، ومن اليابان إِلى ميلانو وفينيسيا وقبرص، وإِلى سواها من ذاكرة الأَمكنة على قلمه النَّضِر يجعل قارئَهُ رفيقاً له في التقاط الهينهة، فهو في صميم الجماليا من أَدب الرحلة في أَدبنا العربي.

ويكون لـ”الندوة اللبنانية” منبرٌ يتلقاهُ في محاضراتٍ بين الوطنيّ والأَدبيّ من شيِّق الكلام، وللمنابر سواها وِقْفاتٌ تعدَّدَت فتعدَّد الشَّوق إِلى سَماعه.

ويشغلُهُ الانتشارُ اللبناني فيُطلُّ عليه من عَلْيا النفحة الأَدبية، مخاطباً المنتشرين اللبنانيين بما يشدُّهم إِلى الحنان والحنين في كلماتٍ نابضة، وله مثْلُها في لُـمَحٍ دفيئةٍ من أَدبه الروحي مخاطباً يسوعَ في ولادته، والمسيحَ في قيامته، ومحمّد في رسالته، فلا يَبرُدُ عنده إِيمانٌ، ولا يَشُذُّ عن انخطافة صلاة: نحن في قطاعٍ من الأَرض تجلّى فيه اللهُ كثيراً وتكلّم كثيراً، من طورسينا إِلى هضاب أُورشليم إِلى صحراء العرب، في لسان موسى وعيسى ومحمَّد، فباخ لونُ الكلام بعد نُطْق الأَنبياء.

هكذا قلبُه لا يَهنأُ كما إِلى نبضة الأَدب.

لكأَنه واجدٌ فيه فُسْحةَ حُبٍّ لا توفِّرها له الصحافة في مواعيدها الزواليّة، ولا تَدَعُ مساحةً لها المحاماة في تفاصيلِها القانونيّة، ولا تُقَرِّبُـها إِليه السياسة في تَعَرُّجاتها الآنيَّة.

ذاتَ وقفةٍ من 1962، وكان وزيراً يمثِّل رئيس الجمهورية يومها، بعدما انتهى عاصي الرحباني من قراءة كلمته في الأَب بولس الأَشقر (مسرح سينما كاﭘـيتول) دنا منه هامساً: “ما أَخلد الفنّ يا عاصي. وحدَه الباقي ونحن راحلون”.

كأَنما لم يدركْ أَنّ كلمتَه الأَدِيبةَ باقيةٌ في الذكرى وفي الذاكرة وفي كل استذكار.

خلال عشاءٍ في بيت صلاح لبكي ضمّ الياس أَبو شبكة، رشدي معلوف، سعيد عقل، بهيج تقي الدين وآخرين، قال صلاح: “إِدوار حنين، هذا الناثر الذي لم ينْظُم في حياته بيتَ شعر واحداً، هو أَكثَرُنا شاعريةً”. ولعلّه لم يخطئْ، فللكلمةِ الـحُنَيْنِيَّة إِيقاعٌ يعزفه الجمال على هَدْلة الصورة النقيّة في العبارة النقيّة.

وها هو نفسه يَذكر: الكتابةُ عندي أَكثرُ التعابير التصاقاً بي في نضالي. أَهدفُ إِليها أَولاً للبوح عما في نفسي، وتالياً أَدعو بها الناس إِلى مشاركتي مشاعريَ النضاليةَ وعمليَ النضالي. ورغم التطورات التقنية أُؤْمن أَنْ لن يقومَ شيْءٌ مَقامَ القراءة لأَنّ العينَ أَكثرُ فهْماً من الأُذن، ولأَن القراءة تأَمُّلٌ لا يُدركه السَّماع.

كان إِذاً يعرف أَنّ لِــوَقْع الكلمة في النثر سِحْراً يُضارع الشعر وقد يجاوزه. هوذا، بما لا يقلُّ عن الشِعر، يَرثي أُمه بُعَيْدَ غيابها: “بنا من الغصَص الكثير: غصةُ أَنْ لن تراكِ العيون بعد هذا الغياب، غصةُ أَلاّ يَلقى أَبناؤك صدرَكِ كلما اشتاقت رؤُوسهم صدراً ينعم لها ويَلين، غصّةُ أَن يحارَ صغارُنا: “أَين أنتِ”؟ وكيف أَخليتِ مكانكِ بينهم، وكيفَ أَنكِ لا ترجعين، غصّةُ أَلاّ نعودَ نسمعُ أَسماءَنا من الفم الذي قَرَنَ أَسماءَنا بالصَّلاة… لكنَّ بنا نعمةَ أَن تكوني شفيعةً لنا ولِبَيتنا في السماء، يا أُمي“.

ولا يقلُّ شِعراً عن الشِعر تقديـمُه النثريّ صديقَه الشاعر سعيد عقل عشيّة صدور “رندلى” (1950): “ما كان أَغناني عن مقدمةٍ يَليها صميم، وعن ناثرٍ يمهّد لشاعر. تَخطُرُ “رندلى” في الوهم إِن خطَرَت، ولا تخْطُرُ في الصالات والشوارع. تُطِلُّ من وراء الجمال جَمالاً دعيّاً ولا تَصِلُ من وراء الحياة في لحمٍ ودم. وجدانياتُ هذا الشاعر الكبير تَعَبُّدٌ وتَسابيحُ وصلاةٌ، تأَلُّقٌ في الجمال، شُرودٌ في المُطلق، براعةٌ في الخلق وافتعال الأَحاسيس، ودفقٌ زاخرٌ دفيقٌ من المقوِّمات الشعرية“.

“ناثر يمهِّد لشاعر”؟

أَجل، بل الصدارة من قَولة الشِعر، حتى لَيَشتهي رثاءَه الشعراء، كما في حُزنه الكثير على رفيقِه الأَقرب صلاح لبكي: “صلاح لبكي الرجُل ظَلَّ مشدوداً إِلى رَبْوةٍ مُورقةٍ من ضواحي بعبدات يَعُودُ يَستلْهمها في كلّ أَمر، أَو هي مع كلّ أَمرٍ في نفسه. صلاح الشاعرُ واحدٌ من شعراء الطليعة في الهمس، بَوحاً وبثاً، وفي التعبير عن ناعمات الخواطر والأَحاسيس، فيه ما ليس في سواه من سَهوة الجبل وتناغُم شطآنه، من كسَل سواقيه وتثاؤُب أَنسامه، من فَورة ينابيعه ودَلّ أَزهاره وأَشجاره. وصلاح لبكي الكاتبُ واحدٌ من قلائل وُفِّقوا بإِفراغ الفكرة في قالبٍ من الكلام المجنَّح، يَهُون معه الوصولُ إِلى أَفْهام الناس فلا تُجْفِلهم غرابةٌ أَو جِدَّةٌ طريفةٌ أَو جُرأةٌ في اقتحام العوالم البكر حتى قيل إِنه ناثراً أَطيبُ منه شاعراً(مجلة “الحكمة”- كانون الأَول 1955).

ويغيب مارون عبود فيوجعُه غيابُ قيدومٍ من الجبل غادر سنديانته المباركة (1963)، ويكتب نصاً أَدبياً بأَصفى ما ينضح الأَدب العالي: “لم تَرْقَ يدُه إِلى حاجبَيه فإِذا هما نَسران على رأْس شير، ولا خطرَت رِجْفة في مقلتَيه فإِذا اللحظُ مَخرَزٌ والنورُ بريق. ما التقيتُهُ مرةً إِلاَّ شَعرتُ بأَنني أَلتقي واحداً من الجُدود العتاق يُنفّض قدَمَيه من ترابٍ عابق بالصعتر والخزامى، وتنشقْتُ فيه رائحةَ القمّة عند ظهر القضيب… لا أَقْرب إِلى أُسلوب مارون عبود إِلا مارون عبود. تقرأُه فإِذا لغةُ الجبل تتراءى في فصحاه، زاوج بينهما فلطَّف الجَفاف بالمطر المُنَدّى، وما تجلَّتِ الروح يوماً أَحسنَ من تَجَلّيها في حبرٍ سال على ورق بين يديه، ولا جُلِيَت عروس أَحسن مما تُجْلى عرائس بالِه“.

 وكذا يفي حقَّه صديقَه الغالي رشدي معلوف (1980) زميلَ الصحافة ورفيقَ الدرب في مسيرة الأَدب: “كان رشدي في مجالات الكلام الْتماعاً مُتأَلِّقاً. إِذا تكلَّمَ كان اللفظُ الشيِّقُ طوعَ لسانه، وإِذا كتَبَ رقَص القَولُ على شِقِّ قلمه، وإِذا حاضر أَو خطَب فتَزاحُمٌ فريدٌ بين اللفظة والفكرة حتى تلبَسَ اللفظةُ أُختَها فيتدفَّقا في آنٍ بانسياق كلّي كما الماءُ من يُنبوعه. ما رأَيت رُشدي طَوال عُمْرٍ كاملٍ يتعثَّر مرةً في قول. لا الفكرة كانت تعصاه ولا الكلمة“.

غير أَنه، في ما رثى أَو رحَّب، في ما روى أَو سَرَد، ظَلّ عنده العنوانُ الأَعلى: أَدبَ لبنان المميَّزَ في دُوَل المنطقة، الرائدَ في جميع فنونه، يستلُّ الريادة وينشُرُها على سائر الجوار فيَبقى لِلُبنانَ فضْلُ السبْق والإِبداع.

ولم يُضْمِر ذلك عن قناعةٍ وانطواءٍ بل جاهرَ في عنفوانِ من يَعتزّ ببلاده وأَدبِ بلاده وأُدبائِها الروّاد: “أَكادُ لا أَعرف شعباً يتّسع عنده مفهومُ الأَدبِ الاتساعَ الذي وصَل إِليه مفهومُ الأَدب عند اللبنانيين، بِــما في صدورهم من حُرمةٍ للكتاب وقدسيةٍ للقلم. كأَنّ الأَدب عندَهم بعضٌ من عبادة، والأَديبَ خادمٌ في هيكل العبادة وكلّ ما يتصل بالأَدب والأَديب موصولٌ بهذه العبادة. فما دامت الحضارة اللبنانيةُ عُصارةَ حضاراتٍ لكلٍّ منها خلاصةُ الفكر البشري، وما دامت حضارةُ اللبنانيين حضارةَ شعبٍ لا حضارةَ طبَقاتٍ وأَفراد، وثقافةُ اللبنانيين ثقافةً مركّبة وتراثاً إِنسانياً كثيفاً، وما دام تطلُّعُهم إِلى الدُّنيا مِن فوقِ هذه الجبال، ولَهُم قَدَمٌ في الأَزرق المتوسّط كلّما هتَفَ في الصدر هاتفٌ إِلى المَدَوَات البعيدة والدنيوات العتيقة الجديدة، وما دامت الحريةُ مطلبَهم الأَول، فسوفَ تظلُّ أَرضُ لبنان، أَرضُنا المنوَّرةُ الحُلْوة، ملتقى الحاضر بماضيه، ومَصَبَّ الغرب في الشرق، ومطْـلعَ الفَيْض بلا عَناء، كما يَنهلُ عبيرُ الوَرد من الوَرد، وَيَمشي الجبلُ المُلهَمُ كوكبةً إِثْر كوكبة، فالمُعين لا ينقطِع، وتظلُّ في الجبل الـماشي جوقاتٌ تُنَاشد الله وتُنْشِد: “تباركْتَ اللهُمَّ تباركْتَ، أَعطِنا المعرفةَ فنحيا(محاضَرَتُهُ “خواطر في الأَدب اللبناني” – “الندوة اللبنانية”، نيسان 1956).

ولعلّ كِبَرَه بلبنانه الأَديبِ، والوطنِ الممتَدِّ إِقامةً وشرقاً وغرباً أَبناءَ يَستضيئُون بوطنِهم أَينما حَلّوا، هو ما دَفَعَهُ إِلى أَن يَكتُبَ في وصيّته الأَخيرة: “أَتمنى أَن تكونَ على بلاطةِ قبري عبارة: هُنا يرقُدُ إِنسانٌ مُؤْمِنٌ بالله وبلُبنان”.

… بالله، حتماً.

بِلُبنان، أَكيداً.

ولعلّي، باسمه، أُضيفُ: … وبالكلمةِ التي تَجعل الأَدبَ اللبنانيَّ شُعاعاً ساطعاً في أُفُق الأَدب، عالَـجَها مبدعُون من وطن الأَرز فعاجَلَها بنشْرها في العالم نكهةً لبنانيةً طَيَّبَتِ الكلِمةَ، وطابَ لها مُـخْلِصون أَوفياءُ أَنَّــقُــوا الأَدبَ فطاب.

وفي صدارتهم أَلقاً: أَدَبُ إِدوار حنين.