“سلافُ دَنٍّ إذا ما الماء خالطَها فاحت كما فاحَ تفاحٌ بِلُبنانِ” (أَبو نواس)
وقال المتنبي: “حيث التقى خدّها وتفاح لبنانَ وثغري على حميّاها”
وقال ابن خفاجة الأَندلسي: “وَهَبْنِيَ أجني ورد خدٍّ بناظري فمن أَين لي منه بتفَّاح ِ لبنانِ”؟
هكذا إذاً: تفاحُ لبنان استحوذ على اهتمام الشعراء من غير لبنان، فكيف بأهل لبنان وأبناء لبنان وتعلُّقهم بتفاحه حتى إحياء عيد باسمه ومهرجانات، وإطلاق اسمه على مناطق فيه؟
أمامي كتاب “إِقليم التُّــفّــاح: العينُ تَرصُدُ الذَّاكرة”: إِخراجٌ جميلٌ لحجم مربَّعٍ من 108 صفحات تطرِّزها صوَرٌ بعدسة الفوتوغرافي كامل جابر ونصوصه الشاعرية. وله في هذا المجال تجاربُ أُخرى لإبراز جمالات لبنان بكاميراهُ اللاقطة الجمال.
إنتاج الكتاب للاتحاد الأوروبي، إهداؤُه إلى اتحاد بلديات إقليم التفاح، مقدمته لمنسق المشروع المهندس جهاد الشيخ علي. صدر بالعربية سنة 2006 مع غلاف للقناة الرومانية في جرجوع ينعكس على وجهها من بعيدٍ جبل صافي تُوَسِّم صدرَه البيوت.
مطلع الكتاب، نصوصاً وصُوراً ملازمة، خارطةٌ لتَجَمُّع اتحاد بلديات الإقليم، وفيه: جباع، عين بُوسْوار، كفرفيلا، عين قانا، جرجوع، عربصاليم، حومين الفوقا، حومين التحتا، صربا، ورومين.
يحدّد الكتاب موقع الإقليم بين مدن صيدا والنبطية وجزين، تغمره تلال صافي ومليتا وسجُد والريحان وجبل الرفيع، وتحوطه قرى شرق صيدا وحيطوره وبصليّا وكفررمان والجرمق ونهر الزهراني الذي ينبع من وسط الإقليم ثم يَتَأَفْعَنُ هادراً صوب الجنوب.
ومن قلب الإقليم يفور نبع الطاسة ليعانق نهر الزهراني الكانت على ضفافه طواحين لم تبق منها اليوم سوى الذكريات.
أما اسمه، المرصود على وفرة أشجاره التفاحية، فقديم يرقى إلى النصوص الملكية المصرية القديمة، وتعاقبت على أرضه حضارات الفرس والإغريق والرومان، إلى أن فصَّل وصفَه الرحالة الأميركي إدوار روبنسون خلال جولاته على فلسطين وجوارها.
ثم يجول الكتاب بالنص والصورة على جباع عاصمة الإقليم وموئل الريادة العلمية والفقهية والإدارية، وعلى عين بوسوار وخضرتها الملامِسة الغيم، وعلى كفرفيلا وأعراس الفواكه والمواسم فيها ومغاورها المنحوتة في أحشاء الصخور، وعلى عين قانا المزروعة بين الجدائل السنديانية، مزهوة بمواقعها التاريخية وقلعة الحصن فيها، ويمر بـجرجوع المطلّة على الجليل الأعلى وعلى منارة حيفا ونبع الطاسة الذي يتوقف الكتاب عند مشروعه العائد إلى سنة 1924 إذناً بِـجَرّ مياهه إلى ست قرى جنوبية. ويواصل الكتاب رحلته إلى عربصاليم ووفرة مياهها، هي التي يتدفق من أسفلها نهر الزهراني، ثم إلى حومين الفوقا ذات الهضاب والمنحدرات النابضة عيوناً وينابيع وثروة سنديانية غزيرة، فإلى حومين التحتا وغناها بأقنية رومانية ونواويس قديمة وبقايا قلعة صليبية مندثرة ومغاور مدفنية، وصُولاً إلى صربا وثروتها السنديانية وواحة الدقاق الصخرية وبقايا قصر قديم ونواويس وفخاريات وكهف قديم جميل التقطيع، وانتهاءً ببلدة رومين وحاراتها الداخلية وما فيها من مغاور مدفنية ونواويس وبيوت تراثية ومعصرة قديمة تُبَرِّر غنى الضيعة بمواسم الكرمة والتين واللوز والرمان وصناعة الصابون. وينتهي الكتاب بخرائط مفصَّلة ملوَّنة عن كل منطقة من مناطق الإقليم.
“إِقليم التُّــفّــاح: العينُ تَرصُدُ الذَّاكرة” كتابٌ آخَر من سلسلة كتب عن ضِياع لبنان وقراه ومناطقه، حبذا لو تزداد في مكتباتنا كتاباً بعد كتاب، حتى يطلّ لبنان من مكتبة واسعةٍ غنية بشعاعات قرانا ومدننا مناراتٍ لهذا الجيل من أبناء لبنان، وموانئَ غنيةً بالخير تعوّض عن وقوف أَبنائنا على موانئ السفر لـمغادرة قراهم وبلداتهم تاركينها للإهمال، فيما لبنان يحتاج أيديهم ليبقى منارةَ هذا الشرق بكل فاصلة من كل سطر من كل فصلٍ في تاريخه المشرق الحضاري.