كأَنه انتقل من سَطح الأَرض إِلى فضاء كتابٍ لينتقل إِلى آلاف القرّاء زُوّارِ الصوَر، فصَــــدَر كتاباً بالفرنسية والعربية عنوانُه “A Beyrouth vivre le Bois des pins” (“بيروتُ… عالَمُ حرش الصنوبر”) في 192 صفحة حجمًا كبيرًا، يضُمُّ نُصوصاً من روجيه عساف وصُوَراً من آلان بُورْد. الأَوّل مسرحيٌّ دأْبُه الاكتشاف، والأَخيرُ فرنسيٌ مُـحترِفُ تصويرِ الصَّحارى والأَنهار والحدائق العامة.
صُوَرُ الكتاب، الصادرِ عن “دار النهار” سنة 2004، مَـجموعةُ معرضٍ فوتوغرافي شهِدَتْه بيروت في 2002 سنةِ القمّة الفرنكوفونية، وطباعَتُه ثَمرةُ دعْمٍ مشترَك بين بلدية بيروت والمجلس الإِقليمي لـمنطقة إِيل دو فرانس.
مطلَع الكتاب خارطةٌ ترقى إِلى 1876 رسَمها نائبُ القنصل الدانماركيّ يوليوس لُويْتْـﭭـِلْد يَظهر فيها حرش الصنوبر. لذا كان طبيعياً افتتاحُ صُوَر الكتاب برسْم الأَمير فخرالدين صاحبِ الفضل في توسيعِ حرش بيروت وتكثيفِ أَشجاره إِبّان حُكْمه في القرن السابع عشر. وإِذِ البدايةُ من الاسم يَذكُر النَّص أَنّ كلمة “بيروتا” في اللغات الساميّة القديـمة تعني “مدينة الصنوبر”.
ويَهدُل الكتاب على صُوَرٍ ونصوصٍ عن حرش الصنوبر، مُـحَدِّداً إِياه مع مطلع القرن العشرين “غابةً كثيفةً ذاتَ أَدغالٍ مُـخيفةٍ تـمتدُّ من الأَشرفيّة وسن الفيل نُزولاً حتى البحر، ومن بدارو والطيونة وصولاً إِلى المدينة الرياضية والـمطار، وبساتينَ فاكهةٍ وخُضَرٍ عن ضَفّتي طريق الشام بين عين الرمانة والشيّاح.
يتَجَوَّلُ الكتاب في حرش بيروت حيّاً حيّاً بين أَزقّةٍ وشوارعَ وبيوتٍ وواحاتٍ خضراء، وقصر الصنوبر شَهِدَ دَرَجُه إِعلانَ دولة لبنان الكبير في أَول أَيلول 1920، ومهَنٍ وصنائعَ في نواصٍ ومَـحالَّ عتيقة، وزنازيق في العيد وزَوغة الأَولاد وثيابهم الجديدة، ونباتات برّيّة غريبة بين شجر الحرير والفطر السامّ والقَطلَب والـمارجيناتا والتيفيثيا، وأَزهارٍ منوّعةٍ بين الفتنة والعَندَم والـمرجانيا والهيبيسكوس والفيكوس والدِّفلى وبزّاق الصنوبر والـﭙـاركنسونيا والميموزا والأَكاسيا والشقائق الحمر والسيلوﭬـيانا والـﭙــْلَمْبَاغو ونُخَيلة السيكاس وزهرة الخرُّوب، وأَكوازِ صنوبرٍ بأَشكالٍ مُـختلفة، وأَشجارِ صنوبر أَميراتٍ ترقى كبيرتُهنّ إلى 300 سنة من الحضور المبارك في حرش بيروت، وصولاً إِلى مضمار سباق الخيل – الأَوّل في الشرق من أَيام الرومان – وما فيه من خُيولٍ عربيةٍ أَصيلةٍ نادرة، واستراحةِ الغائبين في أَضرحةٍ ساكنة عند حيّز شاتيلا من الحرش، وحديقةِ الحرش الممتَدّة على ثلاثين هكتاراً معظمُها لا يزال يلبَس خُضْرَتَهُ، وانتهاءً بتلالٍ متواضعةٍ في الحرش تُسنِد ظهرها إِلى الجبل.
ويكونُ الغروبُ فتَنْعَس كائناتُ الحرش مع نُعاس بيروت التي تغفو كُرمى للّيل والبحر لكنها في بيتها لا تنام.
ومع تلك الصُّوَر ذاتِ الدلالة البليغة، نصوصٌ قصيرةٌ شاعريةٌ، منها: “عند الفجْر تَتَوَضَّأُ مدينةُ السبعة الأَبواب، وهدْأَةً هدْأَةً يُـوقظُ الندى حرشَ الصنوبر من أَطياف أَحلامه، فإِذا من منحدَر الهضاب حتى شاطئِ البحر ينزلِقُ ما يُشبه الخاتم في إِصبع العروس. وبعد بضْعٍ من هنيهاتٍ تَستيقظ المدينةُ على تسبيحات الطبيعة ومناجَيات الإِنسان تائهاً يستطلعُ نهارَه في نُبوءَة الأَبراج”.
ونقرأُ بعد: “رحلةُ الشجرة أَمرٌ بديهيٌّ كما عهدُ براءةٍ بين ولَدٍ وشاعر. لا عبثيةٌ هي ولا هي وهميةٌ بل واقعيةٌ كما رحلةُ نقطة الماء أَو شَعَّة الضوء. عيونُ الحكماء كعيون العلَماء تُزيل حُجُبَ المظاهر كي يَرَوا وراءَها قبَساً من الحقيقة”.
يَطول الكلام على هذا الكتاب الجميل: “بيروتُ… عالَمُ حرش الصنوبر”. غير أَنّ أَفضلَ كلامٍ عليه هو اقتناؤُه، وقراءةُ صُوَرِه، وتَأَمُّلُ نُصوصِه، ووعيُ أَهميةِ حرش الصنوبر، الرئةِ الخضراء من بيروتَ التي فيها رِئَتا لبنان وقمَرُهُ وشمسُه، ونجمتُه التي تَحرُسُه من كلّ عينٍ حتى تظلَّ في الناس عينُ الجمال… الجمال الذي هو اسمٌ آخَر من أَسماء لبنان.