“بين بقايا أَقدم مدينةٍ مسكونةٍ في العالم تعاقبَت عليها خمسُ حضاراتٍ عبْر العصور، أَجلس وحدي أَمام البحر. هوذا الليل يشطِّط على ميناءِ بيبلوس في مياهِها الْــكانت أُمَّ كثيرٍ من الشعوب، وكانت أُمّاً لي أَيضاً، فأَنا وُلدتُ في حضْنها، باعدتُ عنها سنواتٍ وهاني عُدْتُ إِلى حضنها للباقي من سنواتي، تاركاً خلفي -كما أُوليس- أَسفاراً بعيدةً طويتُها ورجعتُ إِلى زاويتي في ميناء بيبلوس، أُعلِّق على جدارها ذكرياتي قُبالةَ أَجمل ديكور طبيعيّ في العالم: مرفأ بيبلوس. ذكرياتٌ تختصِرُها صُوَرُ لقاءاتي وأَصدقائي من كلّ العالم، باعثةً بي نكهة نوستالجيا تتركُ في قلبي وَمْضةً من سعادة”.
بهذه الكلمات الـمُؤَثِّرة ختَمَ ﭘــيــﭙـّـيــه عبْد كتاب مذكّراته الجميل “ﭘــيــﭙـّـيــه بيبلوس” كما دوَّنها صديقُه جِيل ﭬـاندوم وصدَر بالفرنسية سنة 2003 في 250 صفحة قطْعاً وسطاً حاملاً نصوصاً بيوغرافيّةً وباقةَ صُوَرٍ من ﭘــيــﭙــيــه الذي عرَفَ كيف يَحوكُ حوله هالةً أُسطوريةً لبَحّارٍ من لبنان جابَ شواطي العالم وعاد إِلى الحضن الأَول – الشطّ الأَول: شطِّ جبيل الذكرى والتاريخ.
تفتتح الكتابَ مقدمةٌ من الكاتب والسفير كميل أَبو صوّان معترفاً: “اصطادَني ﭘــيــﭙـّـيــه على شرفة مطعمه الأَلفيّة السنوات، طالباً مني أُقدِّمُ لكتاب مذكّراتٍ خلتُني بينها أَمام مغامرات عمر الخيّام أَو أَبو نواس أَو أَلف ليلة وليلة، وسْط الليالي الحُمْر والنساء الجميلات ومغامَراتٍ عاشَها هذا البحّار الأَسمر بين مركبٍ وسفينةٍ وبَـــرٍّ سعيد”.
في 35 فصلاً قصيراً يتهادى ﭘــيــﭙـّـيــه عَبْد على أُرجوحة ذكْرياته منذ ولادته سنة 1911 في حيّ الكرنتينا، وكان والده جورج صائغاً في “سوق الطويلة” لم يوفَّق في محله فانتقل بأُسرته إِلى ﭘـْـوِيــبْلا في المكسيك سنة 1923، وهناك نشأَ جوزف الذي تَحوَّل إِلى خوسيه ثم إِلى ﭘــيــﭙـّـيــه برعاية ابن عمه ميغيل في صناعة النسيج. وطوال عشْرة فصولٍ يروي حياتَه وظروفَها في المكسيك، وفي الفصل العشرين يَعودُ إِلى لبنان ويؤَسّس سنة 1956 مسبح الـ”أَكاﭘـُّــولْكو” في الرملة البيضاء أَشهر مسبح على شاطئ بيروت في الخمسينات والستينات، أَتبعَه سنة 1962 في وادي أَبو جميل بملهى “باخوس” مقصدِ شخصياتٍ ونجومٍ أَيامَ عصر بيروت الذهبي سياحياً ومالياً واقتصادياً قبل انفجار البركان في منتصف السبعينات. وفي تلك السنة أَيضاً (1962) أَنشأَ “نادي بيبلوس البحري” على شطّ جبيل مستقطباً مشاهيرَ محلّيّين وأَجانب: إيزابيل دو فرانس، فاطمة شقيقة شاه إيران، جيرالدين شاﭘـْلِن، فرنسواز دُورلياك، ميراي دارك، داليدا، أَنيتا إِكبِرْك، شيرلي باسي، جان ماريه، مارلون براندو، ديفيد نيـﭬـِن، عمر الشريف، هوغ أوكِنْكْلُوس شقيق جاكلين كيندي، جان فيرّا، إِدغار فور، جان ﭘـْـيا، جيلبير بيكو، جورج موستاكي، شارل أَزناﭬــُور، جوني هاليداي، وكثيرين مرُّوا بذاك المطعم الطّريف الظّريف وتَركوا صُوَرَهم على جدار المطعم زاداً تاريخياً لرُوَّاده مع تواقيعهم عليها مهداةً إِلى صديقهم ﭘــيــﭙـّـيــه.
هكذا، بين عملِه صائغاً ثم جامعاً آثاراً بحريةً وذكرياتٍ، تتوالى في الكتاب صورٌ لتلك الذكريات فتُشتَهى قراءَتُهُ وتَحلو النزهةُ في صُوَرِهِ إِلى مشاهيرَ من كلّ ميدان وكلّ بلاد: على رمال الـ”أَكاﭘـُّــولْكو” أَو في زوايا “باخوس” أَو على سْطَيْحَة مطعم ﭘــيــﭙـّـيــه في بيبلوس، وفي جميع الصُّوَر طعمُ لبنان العصر الذهبيّ، ومناحي لبنانَ السياحةِ العَذْبَة، وذكرياتُ سنواتٍ كان خلالها لبنان مقصَف الشرق ومقصَد الغرب، لرماله الفضيّة وسمائه الزرقاويّة وثلوجه اللؤلؤيّة، وإليها جميعِها استضافَ ﭘــيــﭙـّـيــه زُوّارَه فأَكْرَمَهم وأَكْرَموا به وطنَه لبنان جوهرةً على شاطئ المتوسط.
سنة 2006 غابَ ﭘــيــﭙـّـيــه عبْد. لكنه ترَكَ لبلاده وُجُوهاً وذكرياتٍ يجمعُها هذا الكتاب “ﭘــيــﭙـّـيــه بيبلوس”، على صفحاتِه باقيةٌ نكهةُ تلك السنوات، وفي صُوَرِه نافِحةٌ نسْمةٌ من جمال لبنان الذي، مهما تُحاصره الغُيومُ السُّود، يَبْقَ نبعاً مستمِرَّ الدَّفْق العَذْب: سياحةً وعَراقةً وَمَفَاتِنَ جَـمال.