إنه الزَّمنُ الذَّهَب. زمنُ الرعيل المبارك الذي نَحَتَ للبنان ذاكرةً فكريةً حضاريةً جعلَت بيروت مانيوليا العواصم ترنو إِليها منبراً وصوتاً وحريّة، وتغبِطُ أَبناءَها على وِسْع أَجنحَتِهم، تستقبل تحت جناحَيها ضُيوفاً وزوّاراً يَكتبون، يَنشُرون، يُحاضرون، يَعرِضُون، ويَشعرون بأَن بيروت واحتُهم الأَجمل والأَرحب وبأنّ لبنان وطنُهم الأَوّل حَدَّ وطنهم الأَول.
قادني إِلى الكلام على ذاك الزَّمَن الذَّهب كتابٌ أَمامي صَنَعَ مضمونُه بعضَ ذاك الزَّمن: كتاب “زمن الندوة” الصادرُ عن “مؤسسة الندوة اللبنانية” في 288 صفحة قطعاً كبيراً، عمل عليه فريق باحثين وخبراء فَحَوَى كنزاً لبنانياً شعَّ من لبنان على العالم العربي إِلى أَن فاجأَت النارُ لبنان في ربيع 1975 فحوّلتْهُ خريفاً طويلاً ذبُلَت معه وجوهٌ من الإِبداع في نسيج العالم العربي.
في الكتاب مدخلٌ لرينيه أَسمر هربوز، وريثةِ المؤسس ميشال أَسمر، تُعلن فيه أَنّ هدَفَ الكتاب مُثَلَّث: “فتْحُ صفحةٍ من تاريخ لبنان المعاصر، مساءلةُ حقْبة تَجَمَّع لها مَن آمنوا بالفكر وثقافة التبادل والتواصل والمواطَنَة، وخلْقُ حدثٍ ثقافِـيٍّ يُثير في المدينة جواً من حُبّ الاستطلاع والتلاقي”.
بعد المدخل أَربعة فصول: “نون الندوة” وفيه مقدّمة من الدكتور أَنطوان مسرَّة، وثَبْتٌ كاملٌ بجميع محاضري “الندوة” بدءاً من كمال جنبلاط سنة 1946 حتى بطرس حرب سنة 1984. الفصل الثاني (“ت” التاريخ) وفيه مقدِّمة من الدكتور ناصيف نصار ونبذة عن مسيرة “الندوة اللبنانية” وأَثَرها في ترسيخ الميثاق الوطني. الفصل الثالث (“ب” بيروت) وفيه مقدِّمة من الناقد جوزف طرّاب ولمحاتٌ من بيروت المسرح والمعماريات والصحافة والموسيقى والسينما والمعارض التشكيلية ودُور النشر ومفاصلَ جعلَت بيروت عاصمةً للإبداع. الفصل الرابع الأَخير (“م” مفاتيح) وفيه شهاداتٌ في المؤَسس ميشال أَسمر رائداً في تنشيط الثقافة.
يَضيق الوقتُ والمجالُ لتعداد 410 مُـحاضرين تعاقبوا على منبر “الندوة” فكانوا كَهَنَة الهيكل الذين بَنَوا وأَسَّسُوا ورَأَوا واستَشَفُّوا واستَشْرَفوا ورَسَموا للبنان صورةً بهيةً لوطنٍ ليس من الحلم لكنه حقيقةٌ لبنانيةٌ راسخةٌ في ضمير التاريخ.
حَدَثاً كبيراً كانت “الندوة اللبنانية” منذ انطلاقها سنة 1946 بمحاضِرين قِمَم: كمال جنبلاط (“رسالتي كنائب”)، ميخائيل نعيمه (“صوتُ العالم”)، سعيد عقل (“الأَساس الفلسفي واللاهوتي لنهضةٍ لبنانية”)، أَلفْرِد نقّاش (“المسأَلة الدُّستورية في لبنان”)، جورج نقاش (“نظرةٌ على أُوروﭘـا الحديثة”)، كسروان لبَكي (“رسالتي كسفير”)، وتَتَوالى المحاضرات أُسبوعياً وتغصُّ بالحضور الكثيف قاعةُ وزارة التربية الوطنية في بناية الشرتوني على ساحة الدباس، ويكون كلُّ موعدٍ تظاهرةً، وكلُّ محاضرةٍ حَدَثاً، وكلُّ أُمسيةٍ شعريةٍ حديثَ الصحافة والناس، وكلُّ نقاش بَرْقاً في سماء لبنان، وكلُّ صدورٍ من “منشورات الندوة” ذُخراً يتلقَّفه المثقَّفون نَبْضةً من دم لبنان العافية.
لذا جاءَ عنوانُ الكتاب كاملاً: “زمن الندوة 1946-1975 بين التاريخ والذَّاكرة والحاضر” لأَنه هويّةٌ وطنيةٌ أَصيلةٌ متأَصِّلةٌ في جُذور الفكْر اللبناني والدَّور اللبناني ورسالةِ لبنان الحضارية أَمساً وراهناً واستشرافَ غدٍ غيرِ عاديّ.
ولذا تتصدَّر الكتابَ هذه العبارةُ من فؤاد بطرس: “مع هذه الذكريات المجيدة نهيب بالأَجيال الطالعة أَن تَرجِع إِلى التراث كي تستمدَّ منه قُوَّةً ورجاءً فَتُولي اهتمامَها وحدتَنا الوطنية، وتُسهمُ في بَلْوَرَة الأَفكار التي تَصنَع المستقبل”.
وبهذا النَّفَس الوفائي تَختُمُ الكتابَ مقطوعةُ أُنسي الحاج وفيها: “كانت الندوة اللبنانية مِنبراً بَسيطاً ومقاعدَ متواضعةً في قلب بيروت. وكان ميشال أَسمر من أُولئكَ الآباء الـمُرسَلين: وَقَفَ في الظِّلّ وسَهِرَ على الورشة بِتَفاني الراهب الذي عندَ المغيب يُسرعُ إِلى إِشعال المصابيح لِدَحْر الظُّلمة”.
كتاب “زمن الندوة” ذاكرةٌ لبنانيةٌ لـثلاثة عُقودٍ من الزّمن كان خلالها لبنان منارةَ الشرق. فَلْنَهْتَدِ بتلك الذاكرة وَلْنُعِدْهُ منارة الشرق لنستحقَّ أَن نكون له أَبناءَ وأَن نَحملَهُ إِلى أَبنائِنا وَطَناً يَعتَزُّون بالانتماءِ إِليه وَطَناً رائداً غيرَ عاديّ.