الحلقة 1087: “سَــارحَـــه… والحُـكَّام راعـيـــيـــنــها”
(الأَربعاء 20 شباط 2013)
لا تزال فضيحةُ اللحوم المغشوشة تشغلُ الأَوساط الصحية والقضائية في بلدان الاتحاد الأُوروﭘـّي بعد اكتشاف بضاعةٍ منتشرةٍ في الأَسواق والمطاعم تحمل الدمغة الرسمية على أَنها “لَـحم بقر100%” فيما بيَّنت الفحوص المخبرية أَنها لحم خيول. واكتُشِفَت المسالـخُ حيث جرت هذه العملية التي تعتبرها المحاكم فعْل احتيالٍ يرتِّب عليه القانون عقوباتٍ قاسيةً لِـمَا فيه من ضرر على الصحة العامة.
السلطات الفرنسية سارَعَت إلى تنبيه المواطنين ريثما تنتهي تحقيقاتٌ عاجلة أَسندها القضاء إلى “مكتب المباحث الوطني في المديرية العامة لقمع الاحتيال” وإلى دائرة الشرطة في “المكتب المركزي لـمراقبة التعدّي على البيئة والصحة العامة”. وفي بريطانيا جرى التدقيقُ في المسالخ ومراقبة الهمبرغر ألاّ يكون من لحم الخيول. واكتشفت “وكالة الأَمن الغذائي” في بريطانيا لحم الخيول في 29 صنفاً جميعُها مختومةٌ بأَنها لحم بقر. واكتشفت النمسا لحم الخيول في التورتيليني، والنروج في اللازانيا، والدانمارك في وجبات الـﭙـيتزا السريعة. وظهر الغشّ في أَلمانيا وسويسرا والسويد. وأَجرَت دول الاتحاد الأُوروﭘـّي 2250 فحصاً مخبرياً، بمعدل 150 فحصاً لكل دولة، تدقيقاً في بضاعة الموزّعين ومراقبة ما تقدِّمه المطاعم ورفوف السوﭘر ماركت، تلافياً لانتشار الضرر في صفوف المواطنين.
هذه الأَرقام والوقائع ليست لـمجرَّد السّرد وتبيان ضخامة الاحتيال وحسْب، بل إشارةٌ إلى ذُعرٍ مسؤولٍ أَصابَ المسؤولين لدى قطاعات الصحة والغذاء والعدل في دول الاتحاد الأُوروبي دَرْءاً لضرر السكان من عملية احتيالٍ ضخمة استوجبَت إِعلان حالة طوارئ صحية لتَجَنُّب وقوع الكوارث في الأَرواح، وجعلَت المسؤولين يَهرعون إلى الـمُصَنِّعين والـمُصَدِّرين والـمُوزِّعين والـمَسالـخ والـمَطاعم ومَـحالّ السوﭘـرماركت، وينبّهون الـمُستهلكين إلى أَخذ احتياطاتهم من هذه البضاعة المغشوشة.
هكذا الدولُ ترعى شؤونَ مواطنيها فتتّخذُ تدابيرَ فوريةً سريعةً عند حصول أَيِّ خلل يُضرّ بالمستهلك صحةً أَو بيئةً أَو أَمناً اجتماعياً، وتعمد إلى إِجراءاتٍ وقائية مسْبَقة، ومَـخبريةٍ مواكبة، وقضائية متابِعة، لرفع الخطر عن الصحّة العامة، ثم تُسهم وسائل الصحافة والإعلام في التنبيه والمتابَعة والتوعية المواطنية.
أَما عندنا، فلدى الكشْف عن فضيحةٍ في الأَدوية المغشوشة أَو الأَطعمة المسمومة أَو اللحوم الفاسدة، تتسابقُ وسائل الإِعلام ما سوى إلى تصوير البضاعة والتشهير بها وبِـمُرتكبيها، وتَـهرع الدولة إلى “تشكيل لجنةٍ” و”فتح تحقيق” (لا يصل عادةً إلى خواتيمه)، ولا تؤْخذ إِجراءاتٌ لـمواجهة احتيالٍ مقْبل، ولا تدابيرُ وقائيةٌ أَو قانونيةٌ تَردع مرتكبين مُـحتمَلين، ولا تتركّز الإِجراءاتُ على حماية المستهلك بل تتهيَّأُ التدابير لحماية المرتكب وهو غالباً مدعومٌ سياسياً أَو مُغَطّى حزبياً أَو محميٌّ من جهة سياسية.
ومن اليوم حتى تَـهرعَ الدولة عندنا، كما في الاتحاد الأُوروﭘـّي، إلى تدابيرَ احترازيةٍ وإِجراءاتٍ مُسْبَقةٍ لحماية المستهلك قبل وقوع الكارثة، سوف يظلُّ الـمُواطن اللبناني متروكاً لقَدَره الـمكشوف، ولـمصيره الغامض، ولـمقولةٍ اتِّكالية قَدَريّة تَـجعلُ حياتَه “سَارحَـه… والـحُكّام راعــيــيــنـها”.