الحلقة 1080: نرفعُ فعْلَ إيـمانِنا بِبَيروت وبِلُبنان في اليوم الأول من هذا العام الجديد
الأربعاء 2 كانون الثاني 2013
فيما تتجاذبُ لبنانَ اليومَ انقساماتٌ من كلّ نوع، وبينها الطائفيةُ والمذهبيةُ يغذِّيها سياسيون مغْرضون لـمآرب تَـخدُمُهم أَو تَـخدُم أَسيادهم في الداخل والخارج، تطالعُنا وسْط الضبابةِ السوداءِ صفحةٌ بيضاء من كتاب “بيروت في التاريخ والحضارة والعمران” للشيخ طه الولي (1921-1996) تشير إلى مستوى الأَخلاق والعلاقات الأَخوية بين أَبناء بيروت قبل 140 سنة.
جاء في تلك الصفحة: “سنة 1874 كلّفَت السلطةُ العثمانية شركةً فرنسيةً تَخطيطَ طرقٍ داخلَ سور بيروت وخارجَه، وتوسيعَ الأَسواق التجارية في القطاع القديم من المدينة. وكان في مدخل بيروت الشرقي شجرةُ جِـمّيزٍ ضخمةٌ في أَرضٍ لعائلةٍ مسيحية، عزمَ صاحبُها يوماً على الحجّ إلى القُدس وخشيَ أَن يعبَث بالجميزة أَحدٌ في غيابه فعهَد بِحِراستها إلى صديقٍ له مُسْلِمٍ من بيروت. في غيابه وصلَت الشركةُ الفرنسية في أَشغالها إلى قطعة الأَرض تلك، وعزمَت على إِزالة الجمّيزة لأَنها تعرقل التوسيع والتعبيد. فسارع إِليها الرجلُ الـمُسْلم خوف اقتلاعها، حتى إذا رأَى الفَعَلةَ يقتربون منها بِـمَعاولهم طوَّقها بذراعَيه صائحاً: “هذه الجمَّيزةُ أَمانةٌ في عنقي حتى عودةِ صاحبها. إِذا أَردتم بها سوءاً فابدأُوا بي قَبلَها، وإلاّ فانتظروا عودةَ صاحبها”. قدَّرَت الشركة الفرنسية دوافعَ الرجلِ الخُلُقيةَ أَن يُحافظ على وديعةٍ أَمَّنه عليها صديقُه فأَوعزت إلى الفَعَلة أَن يتجاوزوا الشجرةَ ويُرجئُوا اقتلاعَها حتى يعودَ مالكُها من القدس. وهذا ما حصل: أَبقت الشركةُ على الشجرة وتجاوَزَتْها إلى بقيّة الطريق. ولَـمّا حضَرَ صاحبُ الأَرض وجَد جِـمّيزته لا تزال تَختال بجذْعها الفارع وأَغصانها الظليلة الوارفة، بفضْل صديقه المسْلِم الأَمين. ومنذ تلك الحادثة سُمّيت تلك المنطقة “حيّ الجمّيزة”، تَخليداً لتلك البادرة بين صديقَين مسيحيّ ومُسْلِمٍ من بيروت”.
أَعود من 140 سنة إلى اليوم، فأَرى بعضَ السياسيين يَخونُون هذا النُّبْل البيروتـيّ، ويدُسُّون السُّمَّ الدينيّ والطائفيّ والمذهبيّ والفئويّ والحزبيّ والسياسيّ ليتفرَّقَ أَبناءُ لبنان ويتشلَّعَ أَبناءُ بيروت أَحياءَ ضِدّ أحياء، وشوارعَ ضِدَّ شوارع، فيخجلَ من فِعْلَتهم تاريخُ لبنانَ الأَمس الناصع.
لكننا لن نَدَعَهم يتمادَوْن، وسنحفَظُ بيروتَ بصُدُورنا كما حافظَ ذاك الـمُسْلِمُ النبيلُ على جِمّيزةِ صديقه المسيحي. وسنعرف كيف نُحافظ على بيروت قلبَ لبنانَ النابض: ما يُصيبُها يُصيبُه، وإِن أَنقذْناها أَنقذْناه، فلْنَعْمَلْ على التَّمَثُّل بأَبناء بيروتَ العائلةِ الواحدة، لا يفرّقُ بينهم تيّارٌ سياسيٌّ، ولا زعيمٌ مُتَوتِّرٌ مَوْتُور، ولا انقسامٌ طائفيٌّ أَو مذهبيّ، بيروتَ العلمانيةِ على تَدَيُّنٍ صَحيحٍ تُكَبِّرُ مِئذنةٌ فيها ويصدَحُ فيها جَرَس، بيروتَ التي قال منها صائب سلام: “لو تُرِك اللبنانيون لِبَعضِهم البَعض، لَـخِفْتُ عليهم من الاختناق لِشِدَّة العناق”، بيروتَ التي قال منها تقيّ الدين الصلح:”طالما بقيَتْ في لبنان كنيسةٌ واحدةٌ يُقْرَعُ جَرَسُها، فلا خوفَ على لبنان”، بيروتَ سنة 1943 يومَ في ساحة النجمة أَمام الـﭙـرلُـمان مطالِبُون بالإِفراج عن معتَقَلي قلعة راشيا يهتفون: “بدنا رياض بدنا رياض” نَـهَرَهم تقي الدين الصلح: “أَبداً: بل اهتِفُوا بدنا بشارة بدنا رياض”، بيروتَ التي يصلِّي أَبناؤها: “أَشهدُ أَنْ لا إِلهَ إلا الله” كما يُصلّون: “باسم الآب والابن والروح القدس الإِله الواحد”، بيروتَ مُوَحِّدةِ الدينَين السماويَّين تَحت سماءٍ واحدة، لن يُفَسِّخَ أَبناءَها سياسيُّون مأْجورون، وستبقى لنا جَـميعِنا: معصُومتَنا بيروت، وعاصمتَنا بيروت، ومدينتَنا بيروت، وحـبــيـبـتَــنا بيروت، ونَـجـمــتَــنا بيروت.
وإذ نقولُ إنّها “بيروتُ القلب”، نقول إنه “لبنانُ الجسمُ كلُّه” حتى آخر شِبرٍ وأَصغَر طفْل، لبنانُ الذي قَوِيَ ويَقْوى وسَيَقوى على يوضَاسيّيه في الداخل وبيلاطُسِـيّـيه في الخارج، وعلى ما فيه ومَن فيه من خَوَنةٍ ومتآمرين ومستسْلمين ومستزْلـمِين، لبنانُ الأُقنومُ الواحدُ الأَوحَدُ الـمُوَحَّدُ الـمُوَحِّدُ الذي يؤْمِنُ به أَبناؤُهُ الـخُلَّصُ أَكثرَ مـمّا يؤْمن به كثيرون من قادتِه وسياسيِّيه.
وإنه الخالدُ هو، وإِنهم زائلون، ولا بقاءَ لكلامِهِم الرَّغْوِ الزَّبَدِ يغُور هَباءً في بَـحرِ بيروتَ الغنيِّ بلُؤْلُؤ الـمُخْلِصين.
هكذا يَـجدُرُ بنا أَن نرفعَ فعْلَ إِيـمانِنا بِبَيروتَ وبِلُبنان في اليوم الأَوّل من هذا العام الجديد.