حرف من كتاب- الحلقة 81
“قلوب في بيروت”- جوسلين بطرس
الأحد 9 أيلول 2012

“بين سماءٍ زرقاء وأرضٍ كانت خضراء، سِحتُ أشهراً طويلةً أبحثُ عن قلوبٍ في بيروت، تعذَّبَتْ أَو أَحبَّتْ وأَحياناً تعبَّدَتْ، أَو تاهَتْ وانكسَرَتْ، أَو هَنِئَتْ وَزَغْرَدَتْ، رَوَتْ لي قصصاً حين وَعَيتُها وعَيتُ وطناً لم أَكن أعرف عنه إلا جمالَه الطبيعيّ. وبعد شهاداتها، تلك القلوب، فهمْتُ تطوُّرَ وطني الذي ليس غنيّاً بالتاريخ والحضارة وحسْب، بل غنيٌّ، خصوصاً غنيٌّ، بنعمة الحُب”.
هكذا قدّمَت جوسلين بطرس إلى القراء كتابها “قلوب في بيروت” الصادر بالفرنسية حديثاً عن منشورات درغام في 176 صفحة قطعاً وسطاً، حاملاً أربعَ قصصٍ حقيقية سمعَتْها المؤلّفة أو عاشَت بعضها أو رُويَت لها، هي: “كارين و علي- الصليب والهلال”، “الأمل يبعث الحياة”، “العلاقة تعود من جديد”، “يا قلبَ الحب يا قلب الحرب”.
في الأُولى “كارين و علي” مساحاتٌ ملوّنةٌ من حُبٍّ كبيرٍ عاصفٍ جمعَ بين شاب وصبيّة كانا يحلمان بمستقبل لهما جامعٍ يحملهما إلى جنّة السعادة، ظنّاً منهما أنّ منطقَ قبل الحرب انتهى بعد الحرب فلا فواصلَ دينيةً أو طائفية تحول دون جمع العاشقَين، لكن الواقع المرير القاسي أثبتَ العكس تماماً فحطّمَت الحربُ الأملَ الزهريّ، وقضى عليّ برصاصةٍ ضحيةَ حبّه، ساقطاً أمام كارين التي ركعَتْ تمسَح دماءه شاعرةً أنها تمسح دماءَ قلبِها الذي هوى مع قلب عليّ.
في الرابعة قصةُ حُبٍّ أُخرى جمعَت بين ماريا وزياد، بلغَت بعضَ نهايتها السعيدة حين قرَّرا عقد الخطوبة مع الأهل، وحدّدا الموعد نهار الأربعاء 12 تموز 2006. لدى اكتمال المدعوين، اقتربَت ماريا من قالب الحلوى تنفخ عليه شموع الاحتفال، حتى إذا انطفأَت هذه واشتعلَت فرحتُها باقتراب زياد منها واضعاً خاتم الخطوبة في إصبعها، صرخَت امرأةٌ في آخر المطعم: “أُهربوا جميعاً. بدأت الحرب. إسرائيل تقصف بيروت”. كانت تلك بدايةَ حرب تموز التي فصلَت بين الحبيبَين: كارين سافرَتْ مع أهلها إلى كندا بإيعازٍ من سفارتها، وانطوى زياد على حُرْقَتِهِ مسْعِفاً يُنجِد الأهالي المنكوبين بِتَهَدُّم بيوتهم في حرب تموز. مرّت سنواتٌ ثلاث على نزْف الحب في قلبَين عاشقَين. وفي السنة الثالثة عادت ماريا من مونريال تبحث عن زياد، فكانت مفاجأةٌ صاعقةٌ لها أَترُكُها لقرّاء الكتاب يكتشفونها بذاك الأسلوب الروائي السلس الذي حبَكَت به المؤلفة خيوط القصة.
في ختام الكتاب ترى الكاتبة أنّ “الحرب تَهْدُم وتُفني لكنها في مواضع أخرى تجمَع وتُوحِّد. وهكذا شعبُ لبنان خرج من حروب لبنان أكثر حِلماً وكرَماً ووعياً مصيرَ الوطن فلا يفرّطون به كرمى لزعيمٍ أو سياسيٍّ أو قائد، بل يتماسكون كي لا يتزعزعَ إيمانُ أهلِه به فيضيعَ الوطن، وإذا ضاع لا بديلَ عنه في أيِّ وطن”.
تستنتجُ المؤلفة من ذلك بقولها إنّ “نُسْغ الأرز يَسري في عروقنا، فأنّى كنا ومهما فَعَلْنا نبقى لبنانيين. وكما على أرض لبنان كذلك تحت أَيِّ سماءٍ على هذا الكوكب: أَنْ تكونَ لبنانياً يَعني أَكثرَ بكثيرٍ من أنك تحمل جنسيةَ بلَدِ مولدك: يعني أنكَ عشْت تجربةً فريدةً خسرْتَ فيها غالياً أو أَضعْت رفيقاً. وفي الحالات جميعاً: أن تكون لبنانياً يعني أن تكون تُحِبّ، وأَن تكون تعرف أن تُحِبّ، لأن مَن فَقَدَ حبيباً أو غالياً يعرفُ أكثرَ من سواه كيف يُحِبّ وكيف يُحافظ على حُبّه. لذا، بعد سماعي تلك القصصَ الراعشةَ التي رويتُها في كتابي، أَقول لهذه القلوب في بيروت: “شكراً شكراً… عَلَّمْتُمُوني أَن أُحِبّ”.
بلى، أجملُ الحُبّ: قلبٌ يعرفُ أن يُحِبّ ويعرفُ أن يذوقَ الحبّ من قلبٍ في بيروت، أَو من أَيَّةِ نسمةٍ في سماءِ لبنان.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*