الحلقة 1054: هذا ما كان… في حاضر الزمان
الأربعاء 4 تموز 2012
كان يا ما كان، في قديم الزمان، نعامةٌ ظاهرُها ناعمٌ كشقائق النعمان، وعقلُها ساهمٌ كرُعونة الغلمان.
وكانت تلك النعامة تعيشُ في الصحراء مع أُسْرةٍ لها مَـحسوبةٍ عليها أنْ تهتَمَّ بها وترعاها وتُـخَطِّطَ لــِهَـنَائها وأمانها ومستقبلها.
وكان أن هبَّت يوماً عاصفةٌ هوجاء، عنيفةٌ رعناء، فلم تَجِد النعامةُ الخرقاء إلاّ أن تنأى بنفسها عن جنون الهواء، وتدفنَ رأْسها في رمال الصحراء، غير آبهة لأُسرتها النَّعماء، تاركةً إياها تواجه مصيرَها في الحالة الغَبراء.
وما إن مرّت العاصفةُ العاصفة، حتى وجدت النعامةُ أنها متقاصفة، شَقْلَبَتْها الريح بعيداً بعيداً عن أُسرتها المتراصفة، ولم تعُدْ تجدُ أثراً لأيٍّ من أفراد أسرتها المتناتفة، تشرَّدَت في كُلّ صَقْعٍ وصَوبٍ راعفة، بسبب الأُمِّ المتناصفة.
هذا ما كان في قديم الزمان.
وكان يا ما كان، في حاضر الزمان، أُحْكُومَةٌ نعاميَّةُ المواصفات، ظاهرُها سليمٌ كعُنق النبات، لكنّ عقلَها نَعَاميُّ الصفات.
وَوَرَدَ في “قاموس الكلِمات الحُوشيَّة” لأَبي الفضْل خَنْدَريس، رواها عن المغفور له عبْد العَفُو زَمُّور، عن أُمّه، عن أَبيه، عن ابن خالتِه إِشَعْيَا بِنْ آغا الطَّهْطَزَنّ، أَنّ كلمة “أُحْكُومَة” تعني “الإسم من تَـحَـكَّـمَ في الأَمر، أي حَكَم فيه”.
من صفات هذه “الأُحْكُومَة” افتراضُ أنها ترعى أُسرتها وشعبها ورعيّتها وتخطِّط لها بسياستها أمناً وأَماناً ومستقبلاً كريماً.
غير أن هذه “الأُحْكُومة” اختارَت لسياستها مبدأ “النأْي بالنفس” على مثال النَّعامة: كلَّما هَبَّت العاصفة الهوجاء هَرَعَتْ “الأُحْكُومة” إلى دفن رأْسها في رمل الصحراء، تاركةً رعيَّتها تواجه الرياح والأنواء. وحين تعبر العاصفة تجد “الأُحْكُومة” الشوساء أن أُسرتها مشرَّدةٌ بين إضرابٍ واعتصامٍ وقطْع طريقٍ وتهديدات، فَتَعْجَبُ “الأُحْكُومة” من هذا التصرُّف لافتراضها أنْ هي لم تَرَ العاصفةَ فالعاصفةُ إذاً لن تراها، وإذا تجنَّبَت الخطر بدَفْن رأْسها في الرمل فالخطَر سيعبُرُ ولن يَـمسَّ أُسرتها. ومن الأفكار التي تَــبِـيْـضُـها “الأُحْكُومة” أنها إذا دَفَنَتْ رأْسها في الرمل ولم تَرَ الخطر فالخطَر لن يراها. إذاً: لماذا تحتاط “الأُحْكُومة” لمواجهة الخطر طالما أنها لن تراه وتَظُنُّ أنه لن يراها؟
فَلْيُضْرِبْ مَن يُضْرِبون: معلّمون وموظَّفون ومياومون. وَلْيَعْتَصِمْ مَن يعتَصِمون: أَهالٍ ومواطنون. وَلْيَقْطَعِ الطَّريقَ مَن يَقْطَعون: غاضِبون ومُـحْتَجُّون. فـــ”الأُحْكُومة” مُـحَصَّنةٌ لأن أَعضاءَها غافلُون، بالرمل رؤُوسهم غارزُون، والخَطَرَ الآتي لا “يَقْشَعُون”، يعني أنّ الخَطَرَ لن يراهُم وهم رؤُوسهم بالرَّمل طامرون، فلِمَاذا بالمشاكل والحلول والإجراءات يَهْتَمُّون؟
وَلْتَهُبَّ العاصفة، وكلُّ عاصفة، وَلْيُنْذِرِ المعلّمون، ولْيَأْخُذ الطلاّب إفاداتٍ عِوَضَ الامتحان فالإفاداتُ أَسهل، وَلْتَبْقَ الكهرباءُ هَمَّ المواطنين مهما اعتصَموا وَقَطَعوا الطُّرقات واعْترضُوا واهتاجُوا وغَضِبُوا وصَرَخوا، وَلْتَبْقَ سلسلةُ الرُّتَبِ والرَّواتبِ في الأَدراج نائمةً لأنّ المسؤولين مشغولون، وَلْتَبْقَ التَّعَدِّياتُ على الأملاك العامة رهْن التحقيقات والملفّات والوعد بالإجراءات، وَلْيَبْقَ التأْجيل عنوان “الأُحْكُومة” الشوساء طالما النأْيُ بالنفس حَلّ، وطَمْرُ الرأس بالرَّمل حَلّ، والتأْجيلُ حلّ، و… “خَــــيّْ”!!! ما أجمل الحياة في ظِلّ “أُحْكُومة” تُؤَجِّل ولا تُعَجِّل، أَسرعُ ما تقومُ به: فَتْحُ تحقيق، وأَبْطَأُ ما تقوم به: تفعيلُ نتائج التحقيق.
وَلْتَهُبَّ العاصفةُ لا مَرَّتَين بل مئةَ مرَّة، فالنعامةُ خَلُصَت بريشِها حين دفَنَتْ رأْسها في الرمل لَـمّا هَبَّت العاصفة.
وهكذا “الأُحْكُومة” النَّعاميَّة الأوصاف: لا تخافُ العاصفة طالما لا يزال في الصحراء رملٌ يَتَّسِعُ لرأْسها كي تَطمُرَه فيها.
لكنّ هذه “الأُحْكُومة” لا تدري أَنّ العاصفة لن تَـمُرَّ كلَّ مرةٍ وتَتْرُكَها غارزةً رأْسَها في الرمل. فقد تَـهُبُّ عاصفةٌ أَعنفُ من هوجاء، وتَقْلُبُ لا النعامةَ وحسْب، ولا “الأُحْكُومة” وحسْب، بل تَقْلُبُ رمل الصحراء كُلَّه، وكلَّ ما على الصحراء وفي رَمْلِها، فلا تَبْقى ريشةٌ على جسْم النَّعامة الخرقاء، ولا يَبْقى مِلِّيمِترٌ واحدٌ سَليماً في جسْم هذه “الأُحْكُومة” الشوساء.