أورفليس في كلّ زمان ومكان (1/2)
السبت 12 أيار 2012
-743-
كأَنّه كان يُـحَضِّر حياته بعد غيابه، وهو يوحي بِـما كانت ماري هاسكل تدوِّنه منه أو عنه، ليبقى بقلمها وثيقةً، وهي الرفيقة الوثقى، يؤتى بعدهُ بِـخاطرة لها أو عبارةٍ منها أو انطباعٍ عنه، لِما يكون شاهداً على أفكاره التي لم يدوّنْـها في كتاباته.
أو كأنه، حين ختم “النبي” بقول “المصطفى”: “قليلاً ترونني وقليلاً ولا ترونني لأن امرأة أخرى ستلدني”، كان يرمي إلى أنّ امرأةً لن تنفكَّ تلدُه كلّ يوم: مرةً في لغةٍ جديدة تترجم كتاباً له، مرةً في إعادة طبعِ كتاب، مرةً في كتاب عنه يصدر في لغةٍ ما من بلدٍ ما، ومرةً في مؤتمرٍ عنه يتجدَّدُ كلَّ باقةِ أعوامٍ ويَـجِدُ مَن يقول فيه جديداً عن هذا الذي غاب وهو في الثامنة والأربعين، ولا يزال يملأ الأفق الأدبي، في أكثر من لغةٍ وبلاد، استنباطَ جديدٍ عنه يُدهشُ من عمقٍ ونضارة.
بهذا الانطباع تابعتُ أعمال المؤتمر الدولي الثاني عن جبران في جامعة ميريلند بدعوة من “الاتحاد العالمي للدراسات الجبرانية”، وتنظيم مؤسّسه الـﭙـروفسور سهيل بشروئي.
خمسون باحثةً وباحثاً من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وتونس وإيران وسوريا وإيرلندا وأستراليا وإيطاليا والصين وكندا ولبنان، عالجوا جبران من نواحٍ مختلفة: رسالته الكونية، بشارته الإنسانية والأدبية، أمثاله وحِكَمه ومدلولاتها، قراءته اليوم على وقْع “الربيع العربي”، المرأة الإلهية في لوحاته، أَسبقيّة عبارته “لا تقل ماذا فعلت لي أمتي” التي استعيرت لخطاب الرئيس كيندي، ذكريات بعض معاصريه، تفكيره الشامل حول وحدة الوجود، نظرته إلى عبدالبهاء، مصادر فكره حول الوحدة في التعددية، حضوره الساطع في إيطاليا وإيرلندا وإيران والصين بصدور مؤلفاته مترجمةً فيها ورائجةً في قرائها، لبنان جبران، وجميعُها أبحاث معمّقةٌ قالت جديداً بعدَ كثيرِ ما قيل في جبران وصدر عنه دراساتٍ وكتباً ومؤلَّفاتٍ فرديةً وجماعيةً وأُطروحاتٍ جامعيةً معمَّقةً منهجيةً أكاديمية، حتى ليشْعر المتابعُ أنْ رُغْم كثيرِ ما قيل فيه ويقال، لا يزال كثيرٌ بَعْدُ لم ينكشف عنه ستر وسوف يظهر في الآتي من الأيام.
غريبٌ هذا الجبران: نَـخَالُهُ دَخَلَ تاريخَ الأدب العالَـميّ واحتلَّ منه مكانه الأعلى، فإذا به يواصلُ نسْجَ تاريخِه كأنّه بيننا، كأنه لم يتوقّف عن كتابةٍ يَطلع بها عنه مَن يَرَونه لا يزالُ يُشرقُ كلّ يومٍ في شمسٍ هنا أو هناك أو هنالك، بشارةَ أن المصطفى الذي عاد إلى جزيرته في الشرق ما زال يُـحَدِّثُ كلَّ أورفليس في كلّ زمان ومكان.