الصفحات الــــ254 يَحتضنها الحجم الموسوعيُّ الكبير، تعطي هيبةَ هذا الكتاب الذي يَضُمُّ ملامح من الحياة الريفية اللبنانية في صوَرِ بطاقاتٍ بريديةٍ من تلك الفترة السحيقة في تاريخ لبنان.
بدأت القصة يوم رأت ﭘاتريسيا عكره عقّاد في مدينة نيس الفرنسية بطاقة بريدية لمنظر من وادي قاديشا بكاميرا آدريان بونفيس. ومنذ اشترتْـها تفتَّحت في بالها فكرة جمع بطاقات بريدية مماثلة فتجمّعت لديها مجموعة كبيرة من رحلاتها إلى أوروپا والولايات المتحدة، وأصدرتْها في هذا الكتاب: “جبل ورجال – الحياة الريفية في لبنان بين 1898 و1930”.
الكتاب، في الفرنسية، أنيق الطباعة والإخراج، صدر لدى منشورات درغام سنة 1997، يُظهر من مطلع القرن العشرين ملامح التراث اللبناني ملابس ومناظر وأدواتٍ ومشاهدَ وقرى ومساجدَ وكنائسَ وأسطحاً ترابية ومحادل وسهولاً وأشجاراً وعاملاتٍ في الحقول وبيوتاً تعتمر القرميد وقناطر ومندلونات وأكواخاً وفلاحين ومزارعين ومواشي ومناظر بديعة.
مطلع الكتاب مقطع للكاتب الفرنسي غبريال شارم كتبه سنة 1880: “رغم حدوده الضيقة، يتميز لبنان بالفرادة والحياة والألوان. إنه عالم كامل مصغَّر. ما إن نقترب من جباله حتى نشعر بدهشةٍ جميلةٍ أحس بها ﭬولناي حين زار هذه النواحي التي، وإن في قلب تركيا، تتمايز عن كلّ ما في الأمبراطورية العثمانية”.
بعد مقدمة للمؤلفة تنتهي بقصيدة لشارل قرم من رائعته الشعرية “الجبل الملهم”، يطل الفصل الأول: “بين أرض وفضاء فسحةٌ لِـمِخَدّة” تستهله عبارة ميشال شيحا “مَن ليس له بيتٌ، ولو وضيعٌ، تبقى روحُه هائمة بلا قرار”. الفصل الثاني: “نبيلٌ وأَنوفٌ كسنديانة في الجبل” تفتتحه عبارة ميشال شيحا: “قبل قرنين من جيرانه، كان اللبناني يناضل كي يبقى سيداً على أرضه، متحدّياً إرادة الباب العالي”. الفصل الثالث: “الأشغال والأيام” تفتتحه عبارة ميشال شيحا: “الفلاح اللبناني، مشبعاً بروحانية عالية، هو في فقره سيدٌ ولو انه يسود على عشرين زيتونةً أو على قطعة أرض”. الفصل الرابع: “مشكاك الحقول”، الخامس: “بكلّ تُؤَدَة تتحوّل ورقة التوت شالَ حرير”، الفصل السادس: “العيشُ معاً قدرٌ وفَنُّ حياة”، السابع عن مواسم المونة في جبل لبنان، الثامن عن تقاليد الزواج والولادة والوفاة، الفصل التاسع عن الأديار وكنائسها، العاشر عن المهن اليدوية والصناعات والمهارات، الحادي عشر “على دروب الجبل”، والأخير الثاني عشر عن بلدات في البطاقات البريدية تمتد من خليج جونيه إلى جسر نهر الكلب إلى شلال جزين إلى جسر الحجر في فقرا، إلى أرز بشري، إلى علوات بكفيا، إلى قرميد زحلة، إلى ساحة عاليه، إلى أحياء طرابلس، إلى تلة غوسطا، إلى قصور برمانا، إلى مغارة أفقا، إلى سائر بلداتٍ وقرى ومدنٍ وشوارعَ يفوح منها مناخ تلك الأيام الهادئة الهانئة.
جولةٌ ممتعةٌ في لبنان مطلع القرن العشرين، يرويها لنا صامتاً هذا الكتاب الجميل بِلُغَةِ مئات البطاقات البريدية تتوالى عبر الصفحات، في كل صفحة بطاقةٌ تنادي: “أنا أحلى”، هنا بطاقةٌ لراعٍ يعود بقطيعه عند الغروب، هنا بطاقةٌ لشجرة عملاقة في ساحة الضيعة، هنا بطاقةٌ لنساءٍ مجتمعات عند عين ماء، هنا بطاقةٌ لقروي يحدل سطح البيت استعداداً لمطر تشرين، هنا بطاقةٌ لحياكين على النول وأخرى لفخّارين وثالثة لصباغين، وأخرى لصيادين يسحبون شبكتهم ملأى بالأسماك، …
وفي كل صفحةٍ شروحٌ ومقاطعُ ونصوصٌ جميلةٌ تنضح بِـحُبّ لبنان ونوستالجيا تلك السنوات السحيقة، تطل من بطاقات هذا الكتاب الذي، من عنوانه “جبلٌ ورجال”، يوحي بمضمونٍ/رمزٍ للبنان الذي هُويتُهُ جبلٌ بشُموخه المهيب يتحدّى الزمان، ورجالٌ بإرادتهم اللبنانية يتحدَّون – عَنودِين – مَن يقترب مِن حُرمة المكان.