في 350 صفحة حجماً وسطاً اختصر الكاتب اللبناني رمزي سلامة أحداثاً مفصليةً من سنتَي 1859 و1860 في روايته التاريخية الجديدة “جمهورية الفلاّحين” (La République des Paysans) الصادرة في الفرنسية لدى منشورات “لارماتان” في پاريس، موثِّقَةً تفاصيلَ تاريخيةً عن حوادثَ طمَحت إلى إنشاء جمهورية حقيقية كانت نُواةَ أولِ نَموذجٍ للجمهورية في الشرق الأوسط.
أهمية هذه الرواية أن مؤلِّفها اللبناني يُطْلِع الغرب على مرحلة لا يعرفها من تاريخ لبنان عن ثورة قرويين موارنة فلاحين في العقد الأول من القرن التاسع عشر. وعلى نهج رواياته الأربع السابقة (في الفرنسية: “أمير الساخرين”، “كنوز”، “حدَّثني الحجر”، “الطبقة الاجتماعية العليا”) أَصدر رمزي سلامة روايته الخامسة حاملةً نكهةً من لبنان التاريخ والتقاليد والمناخ الاجتماعي، انطلاقاً من مقولة أنّ ثقافة الديمقراطية تفترض نضجاً ناجماً عن تجربةِ حريةٍ يكتسبها الشعب مع السنوات. وببراعته التشكيلية (هو الرسام كذلك) رسَمَ أشخاص روايته من واقع التاريخ مصبوغين بألوان المؤلّف الرسام في براعةِ تصويرٍ وسلاسةِ تعبيرٍ لحقبة من تاريخ لبنان تكشف عن أَسرارٍ لم تكن ظهَرت بعد، في سياقٍ روائيٍّ مبنيٍّ على معلوماتٍ عن ذاك الزمن في جبل لبنان تَصلُح للمؤرّخين بقدْر المتعة في قراءتها روائياً عن ثورة أطاحَت نظامَ القائمقاميّتين وأَسَّسَت لِحُكْم الشعب في نظام جمهوري، قبل إنشاء نظام المتصرفية الذي عاد فأَحْكَم قبضتَه القاسية على الشعب.
أهمية هذه الرواية في تفاصيلَ دقيقةٍ مُمتعة عن دوافع ثورة فلاحين، بقيادة المكاري البيطار طانيوس شاهين، عانَوا طويلاً وصمَتوا طويلاً على حساب رفاههم وكرامتهم المهدورة بقهر الإقطاعيين في كسروان. ويورد المؤلف مفاوضاتٍ مَحكومةً سلفاً بالفشل قامت بها الكنيسة في وجه سلطنة عثمانية لم تحسم الثورة بل تركت المواطنين يقتتلون في ما بينهم، وهي سياسة “فَرِّقْ تَسُدْ” في شرع الباب العالي. غير أن القوى الأوروبية لم تتفرَّج كالسلطنة العثمانية بل تدخَّلَت واستمالَت ثورةَ الفلاحين لصالحها، كما كلُّ ثورةٍ تبدأ طاهرةً ثم يتلقَّفها انتهازيون يوجِّهونها لمصلحتهم ويُبعدون عنها من كانوا أبطالها وروادَها. من هنا أن الثورات تبدأ طوباويةً بأفكارٍ ساميةٍ عاليةٍ وتنتهي إلى البؤس والانحلال.
وتحفل الرواية بتعابيرَ وكلماتٍ من ذاك الزمان الكسرواني تعطيها نكهةً محليةً ومذاقاً تاريخياً في أُسلوبٍ سلسٍ بسيطٍ يجعلُ قراءتَها متعةً ثقافيةً وتاريخية تضيء على مرحلةٍ من لبنان كانت فيها ثورةُ الفلاحين نواةً لما عاد لبنان فشهِدَه من ثوراتٍ غيرَتْ في مسارِ أكثرَ من مُخطَّطٍ سياسيّ.
روايةُ “جمهورية الفلاحين” (La République des Paysans) لرمزي توفيق سلامة جديرةٌ بنقْلها إلى العربية ليكتشفَ قُرّاؤُها ثورةً في لبنان لم تكن مثمرةً في القرن التاسع عشر لكنها كانت نُواةً أَطْلعَت في ما بعد ثماراً غيرَّت في مسار.
واحدةٌ من هذه الثمار يومَ هَبَّ شعبُ لبنان في ربيع بيروت وغيَّرَ في واحدٍ من أقسى أَحكام القَدَر على مستقبل لبنان.