منذ الغلاف: صورةُ امرأةٍ جبليةٍ طيّبةٍ تَحضن بين كفّيها حفنةَ حبوب، إلى الصفحة الأخيرة الحاملة لائحةَ مأكولاتٍ لبنانية شهيَّة، يتدرَّج كتاب شيرين يزبك “المطبخ اللبناني من الأرض اللبنانية- ذاكرة المذاق” في لُغتَين: فرنسية وإنكليزية، لينقل إلى قرائه مَذاقاً لبنانياً يكادُ يفوحُ من أَسطر الصفحات، ومن أسلوبِ نصٍّ ناضحٍ إيماناً بأرضنا الكريمة السخيّة بالجنى.
ليس هذا الكتاب تعداداً لِمُجَرَّد التعداد، أو مقاديرَ مفصَّلةً لِمُكَوِّنات وَجبةٍ مقتَرَحة، بل هو رسالةٌ لبنانيةٌ للعلاقة بين الأرض واليَد الْمُزارعة ورعاية التُّربة وجَنْي مَحَاصيلها المباركة.
من لقاء المؤلِّفة نساءً في الهرمل حول قِدْرٍ تغْلي بالحبوب والخُضَر يَتصاعدُ منها بُخارٌ حاملٌ ريحةَ الطعام الشهيّ، كانت فكرةُ وَضعِها هذا الكتاب. لم تَشَأْهُ سَرداً أفُقياً كبعض الكتُب الشبيهة، بل أَرادتْه يعود إلى الأَصل، إلى الأَرض الأُمّ، إلى المذاق اللبناني بتنوُّعاته ومُرَكَّباته، فيقدّم مائدةً غنيةً بالتراث المطبخي اللبناني، وطُرقَ تَحضيرٍ مُختلفةً متعدِّدةً للطبخة الواحدة.
هكذا، منذ الفلاح الخبير بشؤون أرضه وبيئَته وما حَول بيته، إلى جدّات خبيرات بالمقادير، استخلصَت الكاتبة خارطةً لبنانيةً للزراعات وأَسرار الطبخ وأَنْماط العيش اليومي مع الأرض. مع كل وصفةِ مقادير: وصفةٌ أجملُ توحي بالذَّوق المطبخي وما يَحمله من حنينٍ إلى ذكرياتٍ تَخرُج من الذاكرة وتَكْرُجُ إلى اليدين اللتين تطبخان. فبَين وصفة مقادير وأُخرى، شريطُ عاداتٍ وتقاليدَ لبنانيةٍ من أيامٍ مضَت لا تزال تُستعادُ في أَكْلَة، في وصفةٍ، في مقاديرَ، في مذاقٍ يَحمل نكهةَ الأجداد إلى الأحفاد.
الكتاب، غيرُ المقادير التعدادية، رسمٌ مُتَأنٍّ للأيدي التي زرعَت وحصدَت وجمعَت وطبخَت وقدَّمَت إلى المائدة طعاماً طيّباً حصيلةَ طبْخَةٍ على الموقد، في المطبخ، على سطَيحة البيت، أو في الساحة قُدَّامه، ولكل مكانٍ مذاقُه البيئي الذي يُنتجُ طَعْماً مُغايراً وفْق مكانِ تَحضيره لقمةَ الخير من أَرض الْبَرَكَة. إنها خارطة الأرضِ والنباتِ والخُضَرِ والفاكهةِ وطريقةِ الزراعة وطُرُق العناية والرِّيّ والقطاف، حتى تنتهي الدورةُ صحناً ذوّاقةً على المائدة مع رغيفِ خبزٍ مُقَمَّرٍ طيِّبٍ شهيٍّ: مرقوقٍ على الصاج، أو رافخٍ على التَّنُّور، ولُقمةٍ طالعةٍ من فرن مشتعل بالنار المطهِّرة. وما لا يتوفَّر في لبنان يُستعار من بلدانٍ جارةٍ أو بعيدةٍ تُستقى منها وصفةٌ أو مقاديرُ أو طريقةُ تَحضير، حتى إذا حُضِّرَت “تَلَبْنَنَتْ” فأَصبحَتْ من مآكلنا الوطنية.
وفي الكتاب إبرازُ أرضنا اللبنانية الغنيّةِ خُضَراً وحُبوباً، وما يُمكن منها تَحضيرُه للمائدة من خُبزٍ ونبيذٍ وأجبانٍ ومكوِّناتِ نبْتاتٍ وأنصابٍ من أعلى جبالنا إلى مزروعات الساحل: شَمَنْدر بيروت ومَلْبَن صيدا وكُبَّة زغرتا ومُعَذَّبة قب الياس ويَخنَة الهرمل ومازة زحلة وخَبيصَة الظريف ومُوَرَّقة كْفَرْرُمّان ومضافة مَجدل زُون وقطايف بيت حسنا،… ومُعظَمُها وصْفاتٌ شَفَويةٌ لَمْلَمَتْها الكاتبةُ من نساءٍ وجَدَّاتٍ وخبيراتٍ بالأرض والزرع والحصاد، ومن وجوهٍ سُمْرِ لوَّحتْها الشمسُ في السُّهول والحقول والبساتين لرجالٍ أَشداءَ تنغرزُ أكُفُّهُم في مِعْولٍ، في رفشٍ، في سِكّةِ فِلاَحَةٍ، في ثِلْمِ أرضٍ، في طراوةِ تُربةٍ تنبجِس منها خيراتُ خُضَرٍ وحُبوبٍ وفَواكِهَ طيِّبة، فإذا لكُلّ مذاقٍ قصةُ يدَين زَرَعَتا وحَصَدَتا، ولكُلّ أَكْلةٍ حكايةُ أَسابيعَ من الزرْع والرّيّ والاعتناء الحميم، في لَذَّةِ مَن يَزْرعُ ليَحصُدَ فيأَكُلَ الأبناءُ والأَحفاد، و… “صَحْتَين يا أغلى الغوالي أبناءَ البيت”.
هذا الكتابُ حكاياتُ الأَيدي والتَّعب والضنى والكفاح مع الأَرض من أَجل أهل البيت والأَرض، فالمذاقُ حصيلةُ جُهْدٍ والمطبخُ اللبناني ليسَ مُجرَّدَ لوائحِ أَطعمةٍ ومُكوِّناتِ مقادير، بل هو ذاكرةٌ تاريخيةٌ لِذَوقٍ في التَحضير يُعَنْوِنُ الْمَذاقَ اللبناني.