أن يرسمَ الكاتب بقلمه، فطبيعيٌّ أن تكون الكلمةُ ريشته الأَساسية. أما أن يكتبَ الرسام بقلمه، فَما يخرج عن البديهي، لأن البارع في الرسم بالريشة ليس ضرورياً أن يبرع في الرسم بالكلمات.
هذا الخروجُ عن البديهيّ وجدَ فسحةً جميلة لدى الرسام اللبناني الرائد مصطفى فروخ، الذي أَرَّخ لِمناظرنا اللبنانية ووجوه عصره في أبْهى خطوطه والألوان، كما أرّخ لانطباعاته ومشاهداته في كُتُبٍ تركَها شاهدةً على حقبةٍ من لبنان النصف الأول للقرن العشرين، منها “رحلة إلى بلاد المجد المفقود”، “الفن والحياة”، “طريقي الى الفن”، “وجوه العصر بريشة فروخ”.
أتوقّف اليوم عند كتابه “قصةُ إنسانٍ من لبنان” (مكتبة المعارف، بيروت، نوّار 1954) وفيه سيرةُ شاب من بيروت سَمّاه سليم، لكنه في الواقع هو مصطفى فروخ نفسُه: في طفولته وصباه وشبابه وانصرافه إلى الرسم وسفره إلى پاريس للتخصُّص وعودته إلى بيروت ومزاولته الرسمَ في بيئة لم تكن ترى في الرسام قيمته الفنية العالية.
تبدأُ القصة بِهرَب الولد سليم من عصا أمه التي هجمَت تنهال عليه لأنه كان يُمضي وقته في الرسم على الورق، خلافاً لأقرانه الأولاد الذين يلعبُون ويلهُون في الحي، بينما هو غارقٌ في التصوير، ما كان يضايق أمه ويدفعها أحياناً إلى ضربه. وكان والده قبل وفاته يؤنّبه على تلك الرسوم ويُخَوّفه من عذاب جهنّم ونارها الهائلة إن هو ظلّ يرسم. وكان لسليم صندوق صغير وضع فيه وريقاته وقلمَه الصغير، فأخذتْه أمه يوماً ورمَتْه على درَج البيت فتكسّر الصندوق وتبعثرت الأوراق وانكسر القلم.
لم تكن الأُم تدرك ما تعني تلك الرسوم، وما يعني تعلُّقُ الولد بها، وما تُخبِّئ وراءَها من موهبة. وبانتقال الولد من الكُتّاب إلى مدرسة جديدة، وجد فيها من يشجّعه على الرسم، فاسترسل في تغذية موهبته بالرسم المتواصل، وبِحُلْم أن يزور يوماً بلداناً يسمع عنها من معلميه أنها عواصم الرسم والنحت، مثل إيطاليا وفرنسا، وعن فنانين كبار مثل ميكالانج ورامبرانت ودوڤنتشي. وكبر الفتى فأَصبح يرسم وجوهَ بعض الناس لقاءَ نقود يَجمعها ويَحلم بالسفر لزيارة المتاحف الكبرى في أوروپا.
تَمّ له ذلك بعد سنواتٍ رغم مُمانعة والدته، فسافر إلى مرسيليا بباخرة تعرف فيها بالفرنسي مسيو دورييه، حتى إذا انتقل بالقطار إلى پاريس راح دورييه يَجول بسليم فيها فصحبه إلى مونپارناس ومتحف اللوڤر والشانزيليزيه والمسارح ودور الأوپرا وحديقة اللوكسمبور ومتحفها، وسليم يقارن بين ما يعاين ويشاهد، وبين بلاده التي فيها إهمال وفوضى وجهل ومَحسوبيات واستبعاد أصحاب الكفاءات.
نال سليم دِپلوم الفنون من المعهد العالي في پاريس، ونوى الاستقرار فيها، لكنّ برقيةً عاجلةً من بيروت فاجأته بِمرض أمه تستدعيه إلى العودة، فعاد إلى بيروت وصَدَمَهُ الفارق في مشاهداته ومقارناته بين پاريس وبيروت. وحين كان يوماً يمشي في أحد شوارع بيروت توقَّفَت حَدَّهُ سيارة بويك ضخمة حيّاه منها رجلٌ بَدِينٌ لم يعرفه سليم أولاً، ثم عرفه فإذا هو رفيق طفولته معروف الذي في صباه وشبابه سُجِن مراراً لتُهَمٍ عدة، وها هو أصبح زعيماً في الحي وله مَحاسيب وأزلام.
ويختم مصطفى فروخ كتابه “قصة إنسان من لبنان” بِحسرة الفنان الذي يَحلُم أن يكون رسولاً في وطنه، فيصطدم بواقعِ مَنْ يتزعَّم قومَهُ ولو في طرق ملتوية.
غير أن الزمنَ عادل، فها زعيم الزاروب غرقَ في النسيان، بينما لا يزال مصطفى فروخ، حتى اليومِ وكلِّ يومٍ آتٍ، اسماً مضيئاً في تاريخ لبنان المعاصر، بلوحاته التي لا تزال تنبض بالحياة كلما رَنا إليها مَنْ يَقرأُ فيها عبقريةَ تلك الريشة التي رسم بها مصطفى فروخ زَمَناً مُشِعّاً من جمال لبنان.