حرف من كتاب- الحلقة 43
“1958- القصّة، الأسرار، الوثائق”- عادل مالك
الأحد 4 كانون الأول 2011

حين يتناولُ التأْريخَ السياسيَّ إعلاميٌّ خبيرُ سنواتٍ من الحوارات واللقاءات والجلسات مع أعلام السياسة، يكون لِنصِّه طابعُ صِدْقيّةٍ تُغايِرُهُ عن نصّ مُؤَرِّخٍ يُحلّلُ عن بُعْد أو عن تنظير.
هي ذي حال الإعلامي العريق عادل مالك الذي، منذ إطلالاته على شاشة تلڤزيون لبنان قبل نصف قرن، استضاف في برامِجه سياسيّين كباراً، حَاوَرَهُم وعايَنَهُم وتابَعَهُم وخَلُص إلى نتائجَ راسخةٍ في التحليل أو الاختبار.
بعد كتابَين له تَحليليَّين في المجال السياسيّ، أَصدر قبل أيّامٍ ثالثَ كُتُبه: “1958- القصة، الأَسرار، الوثائق” في 312 صفحة حجماً متوسطاً، مع صُوَرٍ من تلك المرحلة أَعلاماً وأَعمالاً وعلاماتٍ، ووثائقَ يَصدُر بعضُها للمرَّة الأُولى، وأَحاديثَ لم يسبِقْ نَشْرُها مع أَشخاصٍ أساسيِّين من حِقْبة شهِدَتْ أوّلَ عاصفةٍ أمنيةٍ عرفَها لبنان بعد خَمسَ عشرةَ سنةً على استقلاله.
بالقلم الأَنيق الذي يُشْبه صاحبَه هدوءاً وصوتاً وعُمقَ تقديمٍ وتحليل، رسم عادل مالك فصولَ الكتاب الأربعة: أَوَّلُها قصةٌ وأَسماء، ثانيها أَسرارٌ ووثائق، ثالثُها أَبطال 1958 يتحدّثون، ورابعُها تقارير المراقبين الدُّوَليين ووصولُ الأسطول الأميركي السادس بالمارينْز إلى شاطئ خلدة مع تفاصيل الإنزال ساعةً فساعة.
يقدّم عادل مالك لكتابه بأنه “ليس نَكْأً للجراح بل لأن سنة 1958 شهِدَت ظاهرةً في الحياة اللبنانية كانت أوّلَ اختبارٍ لِميثاق 1943، سيبقى وثيقةً لأجيالٍ لم تعِش تلك الأحداث، فتُلِمُّ من الكتاب بصفحةٍ موجعةٍ من تاريخ وطنها”.
ويرسُم المؤلّف خطّاً بيانياً لافتاً بين ثورةٍ بدأَت في الشوارع بإقامة خنادقَ ومتاريسَ جعلت الولايات المتحدة تتدخَّل بأُسطولها السادس، وانتهَت في فندق “ڤاندوم” بتَبادُل الأنْخاب بين أَبطال الثورة إياهم وانضمام بعضهم في حكومة واحدة.
ولاحقَ المؤلِّف الأحداث قبل وقوع الأحداث، منذ إسقاط زعماء البلاد في انتخابات 1957، إلى شيُوع أن الرئيس كميل شمعون يسعى إلى تجديد ولايته سنة 1958، إلى انقسام لبنان في منحىً طائفيٍّ خَطِر، إلى شهادة وزير خارجية لبنان عهدئذٍ شارل مالك بقوله الشهير: “أَساسُ الثورة خارجيّ. الخارجُ حَرَّكَ الداخل، والداخل تَأَثَّر بالخارج”.
يومها ظهَرَ لِمصر جمال عبدالناصر دورٌ بارزٌ ماديٌّ ومعنويٌّ، حتى قال فيه الزعيم اللبناني كمال جنبلاط: “أَحداثُ 1958 هي ثورة جمال عبدالناصر”. وقبل أن يكتشف عبدالناصر أنه وقع ضحيَّة معلوماتٍ غيرِ دقيقةٍ من مستشاريه عن حقيقة الوضع في لبنان، سرَت شائعاتُ أنه يريد ضَمَّ لبنان إلى الجمهورية العربية المتحدة ثالثاً بعد سوريا.
ويَرسُمُ المؤلِّف خطَّ انتهاء الثورة، عند وصول اللواء فؤاد شهاب إلى رئاسة لبنان مرشَّحاً إجماعياً، بعد طرح أسماء عدةٍ قبْله، بينهم بشارة الخوري (ولاية جديدة)، حميد فرنجيه، البطريرك مار بولس بطرس المعوشي، جواد بولس، وشارل حلو. ولدى موافقة الرئيس شمعون والبطريرك معوشي والزعماء صائب سلام ورشيد كرامي وعبدالله اليافي وهنري فرعون على ترشيح قائد الجيش اللواء شهاب، أَطلَق السفير الأميركي فترتئذٍ روبرت مورفي عبارته المعروفة: “اليوم انتَهَت الأزمة في لبنان”.
وبعدَ أسئلةٍ عن الـ”هل”، والـ”ماذا لَوْ” والـ”لِماذا” والـ”كيف”، بَحَثَ المؤلِّف عن أَسباب ثورة 1958، مُباشَرِها وسابِقها ومُوَاكِبِها ولاحِقِها، ليَخْلُصَ إلى أنّ كتابه، بالوثائق والوقائع، يُحاول الكشْفَ عن تلك الحقائق، والإجابةَ عن تلك الأَسئلة.
كتاب عادل مالك، برَصانتِه ودِقَّة النَّسْجِ في تَحليلِه، شاءَهُ تأْريخاً لِحِقْبةٍ قبل نصف قرن.
غير أنّ قارئه يَطوي صفحتَه الأخيرة، وعلى أطراف أَفكاره سُؤال: “هل حَقاً تغيَّرَ لبنانُ السياسيُّ بعد نصف قرن”؟

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*