وفــاءُ القَـلَـم
السبت 28 كانون الثاني 2012
-728-
أَكتُب، أمامي نَصّان لكبيرَين من لبنان يعيشان خارج لبنان.
الأوّل في الفرنسية لصلاح ستيتيّه من كتابه “لبنان” (پاريس 2006)، جاء فيه أنّ “لبنانَ أرضُ الشِعر، وشِعره سُلْطَةُ الأَعالي، فالشعرُ مرادِفٌ اسمَ لبنان على عتبة تناقضات: صغيرٌ بِجغرافياهُ لكنه كبيرٌ بتاريخه، في العالم العربي هو لكنه ابنُه الضالّ، متعلّقٌ بتراثه لكنه يطمَح إلى قوس الغَمام الطالع، وفِيٌّ لِما هو فيه لكنه وفِيٌّ لِما ليس فيه بعدُ ويُريد أَن يكونَه، دولةٌ ضئيلةٌ لكنه قصيدةٌ طويلةٌ في أبياتها خُبْزُه وسَلامُه، أَبناؤُه حاملو إرثٍ عريقٍ من الحقيقة والحياة”.
النصُّ الآخَر في العربية لخليل رامز سركيس من كتابه “الهواجس الأقلية – من زقاق البلاط إلى كِنْسنْغْتُن” (بيروت 1993) جاء فيه: “إنّا للُبنان وإنّا إليه راجعون إذا رجعَ لبنان يوماً الى مستوى الانسان(…). أُحاول أن أَستحقَّ لبنان وطناً نهائياً سرمدياً عُمرُهُ آلافُ السنين، وما يَجري فيه راهناً ليس سوى مرحلةٍ عابرةٍ من تاريخه. يقولون إنّ ما يَحصلُ في المنطقة “ربيعٌ عربي” لكنني لا أرى في هذا الربيع غيرَ العواصف. هو ليس ربيعاً كما يُذاع، لأن العواصف لا تَهُبُّ إلاّ في الخريف أو في الشتاء. أَخشى ما أخشاه أن تكون المنطقة كلُّها في مهبّ العواصف”.
يصدر هذا الكلام عن لبنانيَّيْن اعتَصَرا لبنانَ في قلبهما والقلَم: الأول سفيراً للبنان سنواتٍ لدى الأونسكو ودولٍ عدة بعدَها وشاعراً مفتوحةٌ له آفاقُ العالَمية بكُتُبه التي أنَّقَتْ لغة ڤاليري، والآخرُ كاتباً وَرِثَ أُسرتَه الصحافية في “لسان الحال” إحدى ركائز الصحافة في لبنان والمنطقة، وأَديباً تَتَلْمَذَ على خليل تقي الدين وفؤاد سليمان وتَلَبْنَنَ منهما أدبُه ليتجاوَزَهُما إلى أرقى الأناقة والجماليا في لُغَةٍ عربيةٍ تأَنَّقَت كما مع قلّة الأصفياء.
لبنانُهما إذاً هو لبنانُ جُذورِهِما الخالدة، وليس دولةَ أغصانه الحاليةَ التي جَعَلَتْه خسِعاً وسْط زعازع المنطقة، تَحوطه العواصف الكبرى من خارج وتُهدِّده سياساتُهُ القزْمة من داخل.
لبنانُهما هو إرثٌ عظيمٌ يتناوله اليوم من يُقَزّمونه إلى عنعناتٍ مَحليةٍ بهموم كهرباء وأُجورٍ واصطفافاتٍ سياسيةٍ مَحسوبيةٍ أزلاميةٍ زبائنيةٍ ضيِّقة تَجعل وجهه لصيقاً بالتراب عوَض أن يظلّ جبيناً ناشباً صوب الشمس.
لبنانُهما ليس تنظيراً من بعيدٍ بِحجّةٍ أنهما يعيشان خارجه ولا “يعيشونه”، بل هو النظرةُ الهادئةُ إليه بعيداً عن نيرانِ أزماتٍ سياسيةٍ داخليةٍ موبوءةٍ دخانُها يُعمي عن لبنان الحقيقي.
لبنانُ الحقيقة ليس أَبداً لبنانَ السياسيّ الذي هَجَّر أبناءَه.
والذين لا يَرون من لبنان إلاّ وجهَه السياسي، فلْينتهوا زَبَداً مع سياسييهم.
وجْهُنا نَحن؟ حَفْرٌ على صخر لبنان.