691: ريشتُه أنقذت الجبَل

ريشَتُه أَنْقَذَت الجبَل
السبت 16 نيسان 2011
– 691 –

كان يُمكن أن يكون جبلاً عادياً، جميلاً وعادياً،
موقعاً سياحيّاً في جنوب فرنسا،
يتهادى السيّاح على سفْحه (18كلم)،
ويُطِلُّون من قمَّته (1011م) على جمال إكس آن پروڤانس والألپ والكوت دازور.
سوى أنّ أندريه مالرو (وزير الثقافة زمان ديغول)
أصدر قراراً في 17/7/1959 يحمي الجبل ويمنع البناء عليه وتغييرَ أَيِّ مَعْلَمٍ فيه،
واختار بين دروبه الجميلة ذا الرقم 17 (طوله 4،690م) وسمّاه “درب سيزانّ”.
لماذا؟
لأن الرسام الفرنسي پول سيزانّ (1939-1906)
سكَنَ في قرية غاردانا، قُبالة الجبل، خمسة عشر شهراً (1885-1886) كان خلالها مأخوذاً بهيبة هذا الجبل وجماله،
فرسم له 80 لوحة مائية وزيتية،
كانت تأسيسيةً لتيار الفن التكعيبي بعد انفصال سيزانّ عن التيار الانطباعي وانسحابه إلى منطقة پروڤانس.
تلك اللوحات كانت كافية ليُصبح جبل “سانت ڤيكتْوار” ذا شهرة عالَمية
بفضل ريشة سيزانّ التي كرَّستْهُ مَعْلَماً فرنسياً مُوحِياً (رسَمَهُ كذلك پيكاسو وكانْدِنسْكي)
نَقَلَهُ من مُجردّ موقع طبيعي سياحي جميل يقصُدُه هواة المشي والتسلُّق والطبيعة،
إلى موقع أَثَريّ ثقافي دوليّ تحيطه الدولة بكل حرص وعناية.
ولما كانت كتلة هذا الجبل الصخرية كلسيةً
وتُمكن الإفادة منها شرط عدم الْمسّ بشكل الجبل الذي كرَّسه سيزانّ وثَبَّتَه قرارُ وزير الثقافة،
ارتأت السلطة المحلية أن تُفْرغ الجبل إنّما من قلبه لا من خارجه،
كي لا تتغيّر معالمه التي باتت عالمية بفضل لوحات سيزان.
وُصُولاً إلى ذلك،
شقّت السلطة المعنيّة أربعَ فُتحات متوسطة الحجم في المقلب الخلفي لسفح الجبل،
وأدخلت منها آلياتٍ ضخمةً راحت تقضم جوف الجبل وتسحب منه الصخور الكلسية المطلوبة،
حتى إذا أفرغَت داخل الجبل من قلبه الكلسي،
عادت فأقفلَت الفتحات الأربع في طابع هندسي جمالي لم يُؤْذِ شكله ولا يوحي بما حصل في الداخل.
هكذا تكون ريشة سيزانّ
أنقذَت جَبلاً جميلاً من الانقراض،
ومن التشويه بضربات جرافة تُحيل جماله جُثّةَ كسارات،
وهكذا الوطن، بحزْم دولته، يَحفظ تراثاً ثقافياً خلَّده مبدع، وتراثاً طبيعياً حفظَه قرارُ وزير.
ونحن؟
ماذا عندنا نحن؟
تراثٌ طبيعي نَهَشَتْهُ كسّاراتٌ
موزّعة بين أنطلياس الإنسان الأول، وأبو ميزان الجبل الجميل، وضهر البيدر جار الغيوم، وسواها وسواها،
وتراثٌ إنسانِيٌّ تاريخيٌّ تُشوِّهُه مُخالفاتُ وادي قاديشا
ومواقعَ أخرى شبيهةٍ يَحفظها عالَمياً حُضورُ منظمة الأونسكو ويغتالها مَحلياً غيابُ الدولة.
والوطنُ الذي لا تَحميه دولةٌ حازمة،
تُهشِّم تراثَه الطبيعيّ كوارثُ بشريَّة، أَبْشَعُها الكسّارات.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*