الحلقة 996: أين نحن من الجيل الرابع؟
الأربعاء 18 أيار 2011
مُؤَثِّراً كان لقائي في بوينس آيرس أعضاءَ من الجالية اللبنانية،
في “مؤسسة الأرز” وفي “النادي اللبناني”،
وهُم من الجيلَين الثالث والرابع للهُجرة إلى الأرجنتين.
مؤثِّراً لا لأنني التقيتُ من أهلنا هناك،
ولا لأنهم التقوا بمن يأتي من الأرض الأم التي وُلِدَ فيها آباؤُهم،
بل لأنني لَمسْتُ في عيونهم غُيوماً سُوداً وضَباباً كثيفاً ومسافاتٍ نفسيةً شاسعةً
بين وطن يُحبُّونه من حُبِّ آبائهم إياه،
ووطنٍ يسمعون عنه حالياً ما لا يَنقُل إليهم حُبَّ آبائهم أرضَهم الأُمّ.
أَصْغَوا إليَّ أَحكي لهم عن لبنان الحضارة قديمِه ووسيطه،
عن دورِه الثقافي في نهضة الشرق منذ القرن التاسع عشر،
عن أبنائه العباقرة وريادتهم في معظم الحقول المعرفية.
وحين انتهيتُ وأصغيتُ إلى أسئلتهم
لاحظتُ إعجابهم بما حملتُ إليهم من صورةٍ عن لبنان موثَّقةٍ بوقائعَ وتواريخَ وأرقامٍ وحقائقَ تاريخية،
لكنّ إعجابَهم يُفسدُهُ تساؤُلٌ قلِقٌ عما يَجري اليوم على أرضه
من تَشَاتُم مُتَعالٍ وتعقيداتٍ متبادَلة وأنانيات مُرَوَّسة،
تولِّدُ أوضاعاً لا يبدو معها واضحاً حرصُ الممسكين بالمقدّرات السياسية
على إبقاء صورة لبنان الحضارية لدى أبنائه البعيدين بهيةً كما هي عليه،
بل هم في تعاطيهم مع مقدَّراته ينحدرون إلى شخصانيّة بغيضة
تجعل الـ”أَنا أَو لا أَحد” شعارَهم القاتل
في هذه الحقبة البركانية المشتعلة المصيرية من تاريخ المنطقة المحيطة بلبنان.
لم يفهموا كيف أترابٌ لهم من دولٍ أُخرى في المنطقة،
تقدِّم لَهُم دُوَلُهم الأُمُّ تسهيلات الفيزا المجانية والسفر المخفَّض والإقامة الميسَّرة
ليقوم جيلُهم الجديد بزياراتٍ دوريةٍ تعريفيةٍ منظَّمةٍ إلى أرض آبائهم،
ولا تَهتَمُّ الدولة اللبنانية، منذ عصور، لهذه البادرة:
لا تتّصل بهم ولا بآبائهم لتمتين الصلة بين لبنان الانتشار ولبنان الأرض الأُم.
ولم يفهموا كيف يكون في الأرجنتين 120 نادياً لبنانياً، ولا يكون للدولة اللبنانية اتصالٌ بأيِّ نادٍ بينهم.
ولم يفهموا كيف يكون وزيرُ الأشغال في حكومة بوينس آيرس دانيال شاهين من أصل لبناني
ووالدُه ألفريدو مؤسس فرع الأرجنتين في الجامعة الثقافية اللبنانية في العالم،
ويكونُ وزيرُ الصحة في الحكومة الفدرالية الأرجنتينية خوان منصور من أصل لبناني،
ولا توظِّف الدولة اللبنانية هذه البُنُوَّة الأرجنتينية لتوطيد العلاقة بين لبنان المقيم ولبنان الانتشار.
ولم يفهموا كيف وزارة الخارجية في لبنان
لا تكون حبل السُّرَّة بين الدولة وأبنائها في الانتشار،
وتكتفي بأن تكون إدارةً رسميةً مركزية لتقارير السفراء وبريد الحقيبة الدبلوماسية،
وأبناء لبنان في العالم أضعافُ ملايين المقيمين فيه.
هم لم يفهموا.
ولا أنا فهمتُ كيف يمكن أن نطالب لهم بالجنسية اللبنانية
قبل أن نُقْنِعَهُم أولاً بالانتماء إلى الهوية اللبنانية،
وبعدئذٍ نقدِّم لهم الجنسية.
وإقناعهم بالانتماء يبدأ بتعريفهم إلى حقيقة وطن آبائهم،
وامتداداته التاريخية وحضوره الحضاري وإشعاعه الثقافي،
تعويضاً عما يتناهى إليهم عنه اليوم في الوسائل الإعلامية والوسائط الإلكترونية.
بهذا المعنى كان مؤثِّراً لقائي في بوينس آيرس أعضاءَ من الجالية اللبنانية في الأرجنتين.
كانوا كلُّهم إصغاءً فرِحاً لِما سَمعوه مني عن لبنان،
وكنتُ كُلّي إصغاءً وَجِعاً لِما سَمعْتُه منهم عن لبنان.
إن دولةً لا تسعى إلى الاتصال الدائم مع الديمغرافيا الممتدّة منها إلى العالم،
ستبقى دولةَ مزارع حديثة وقبائلَ عصرية وعشائرَ معاصرة،
ولن تستطيع أن تبسط حضورها إلاّ مُجَزَّأً على مساحات المزارع والقبائل والعشائر،
وسيبقى حكمُها خاضعاً لأولياء المزرعة والقبيلة والعشيرة،
حتى يقومَ من ينقلُها من سُلْطة الزبائنيّات إلى نظام الدولة.