الحلقة 963: … بل هذا هو لبنان
الأحد 5 كانون الأول 2010
كَوكَبَةً كُنا الى تلك الطاولة في مائدة العشاء قبل يومين. وكان بيننا ضيوف.
وكمعظم الأحاديث هذه الأيام ومعظم الأيام تدور على الوضع الراهن في لبنان وما يحيط به من قَلقٍ وَتَوَتُّر، كان الحديث يدور عن الساعات الدقيقة التي يمرُّ بها لبنان في هذه الفترة.
وأمام وهْنٍ راعشٍ في أَصواتٍ بيننا، ونِظرةٍ الى لبنانَ مسحوقةٍ بما يَجري، وكان لا بُدّ من إنْهاضها الى حيثما هي في حقيقتها الساطعة، فاجأَني الإنْهاضُ نبيلاً جاء من ضيوفنا الى الطاولة.
قال ضيفُنا التونِسيّ: “نَحن في تونِس نقولُها ونُجاهر ونعتزّ بأننا أحفادُ إليسا بنت صُور، وأننا متحّدرون من جذور فينيقية سحيقة، ونروي لأولادنا ومنهم لأحفادنا ما رواهُ لنا آباؤنا والأجداد عن رُسُوّ إليسا على شاطئنا حين وصلَت بأُسطولها من صُوْر لبنان وأسسَت المدينة الجديدة “قَرْتْ حَدشَتْ” وهو الاسم القديم لمدينة قرطاجة اليوم. وعندما نكون في لبنان فكأننا في وطن آبائنا الأوائل”.
وقال ضيفُنا المصري: “ونحن في مصر نُجاهر بأنّ كبرى صحُفنا اليوم “الأهرام” أَسَّسها اللبنانيان: سليم وبشارة تقلا، وأنّ “الهلال” أَسَّسها اللبناني جرجي زيدان، و”الزهور” أَسَّسها اللبناني أنطون الجميل، و”المقطَّم” و”المقتطَف” أَسَّسهما اللبنانيان يعقوب صروف وفارس نمر، وأولَ صالون أدبي عندنا أسَّستْه الكاتبة اللبنانية مي زيادة، والشاعر اللبناني الكبير خليل مطران حمل لقب “شاعر القطرين: مصر ولبنان”، والنهضةَ الصحافيةَ في مصر كان في طليعة روادِها لبنانيُّون، من حبيب جاماتي وداود بركات ونسيب وهيبه الخازن وسواهم، بما يجعل لبنان ركيزةً أولى من دعائم نَهضتِنا المصريةِ التي جاء إليها اللبنانيون في النصف الآخر من القرن التاسع عشر هرباً من تقييد الحريات أيام السلطة العثمانية على أرض لبنان”.
وقال ضيفُنا الإماراتي: “ونَحنُ عندنا في الإمارات لبنانيُّون كثيرون حقّقوا عندنا النهضة الإعلامية والصحافية والأكاديمية والعمرانية، ومدينةُ الإعلام في دُبيّ معظمُ مديريها ومُحرّريها ومذيعيها ومقدِّمي برامجها، تلفزيوناتٍ وصحفاً ومجلاتٍ، أركانُها لبنانيون”.
ولم يقِف الحديث هنا بل توسَّع أكثر، وأنا واثقٌ أنْ لو كان معنا ضيوفٌ من أية دولةٍ عربية أخرى، لكان وَجَدَ ما يقوله عن لبنانيين برَعوا في بلاده وكان لهم – أو لا يزال لهم – سُطوعٌ هناك في حقولٍ عدّةٍ من ميادين العمل الإبداعي أو المهني الخلاّق.
وهذا هو لبنان الحقيقي: ليس الوجهَ السياسيَّ المضطربَ الذي نعايِنُهُ اليوم،
بل لبنانُ الرسالة الحضارية،
لبنانُ الجودة لا الكثرة، لبنانُ النوعية لا الكمية،
لبنانُ خلاّقيه ومُبدعيه وأبنائه الساطعين تحت كلّ سماء، وفي كلّ أرض، ووِسْعَ كلّ وطن،
حيثما يَحلّون قَدَرُهُم أن ينجحوا، وأن يَبْرُزوا،
وأن يكونوا على وفاءٍ للوطن الذي احتَضَنَهم هناك، وعلى ولاءٍ للوطن الذي أَنجبَهُم هنا.
رأْسُ مآسينا في هذه الفترة، أنْ ليس الجميعُ مُنضَوين تحت شعار واحد من الولاء للبنان وما إلاّ للُبنان.
ويا تعْسَ وطنٍ يَختلف أبناؤُه على بديهياتٍ أُولى تحت جناحه، وفي رأس هذه البديهيات: وفاءُ الولاء.