لِكُلّ كلمةٍ تاريخ
السبت 20 تشرين الثاني 2010
– 672 –
في فرنسا اليوم روايةٌ تُحدِثُ رَجّاً: “الكلمة الأولى” (منشورات “ستوك”-464 صفحة) للكاتب الفرنسي اليوناني ڤاسيلي ألكساكيس (مولود في أثينا سنة 1943). وهي مرشّحة لجائزة غونكور 2010، وتعقُب فوزَ كاتبها بجائزة الرواية من الأكاديميا الفرنسية سنة 2007 عن روايته “بعد المسيح”.
اشتغالُ ألكساكيس على الكلمة واللغة ليس حديثاً. فهو صاحب “اللغة الأُمّ” (منشورات “فايار” 1995 ونال عليه جائزة ميديتشي عامئذٍ) وكتاب “الكلمات الأجنبية” (منشورات “ستوك”-2002). هو إذاً ضالعٌ في البحث عن اللغة أُصولاً وكلمات.
أهمية روايته الجديدة: بَحثُه فيها عن “أول كلمة لفظها الإنسان”. ما كانت؟ ما سِرّ أصولها الغابرة في التاريخ؟ ولعلّ تساؤلاته نابعةٌ من كونه ابن حضارتَين ولغتَين يكتُب بهما معاً: اليونانية لغته الأُم، والفرنسية لغته المكتسَبة.
هكذا نحن إذاً، وجهاً لوجه أمام الكلمة: تاريخاً ومضموناً ومدلولاً. فلا كلمة مولودة من عبث، من عدم، من لامكان، من لاظرف ولامُناسبة. لكل كلمةٍ تاريخٌ وهوية ومبرّر ومفهوم ومضمون ومعنى وسياق.
رُبّ كلمة قالها أحدهم في سياق مكاني معيَّن، تذهب مدلولاً لا ضرورة لشرحه، كما كلمة أرخميدس “وجدتُها” للدلالة على اكتشاف ما كان يدور عليه البحث. ورُبَّ اسم لأحدهم في سياق زمني معيَّن يذهب مدلولاً لا ضرورة لشرحه، كما اسم نيرون للدلالة على مَن يُحرِق كلّ ما أمامه ويضحّي بكل مَن حولَه بلوغاً الى غايته التي قد تكون شريرة. ورُبّ كلمة واحدة، أو عبارة واحدة، تَختصر شعباً أو حضارةً أو تاريخاً كاملاً من المعاني أو الأحداث كما “الحرب العالمية” (الأُولى أو الثانية).
إنها الكلمة إذاً! ما أصلُها؟ ومتى؟ عن هيزيود (شاعر يوناني من ق 8 ق.م.) أنها “بنت ربة الوحي”. وعن أفلاطون أنها “مخلوقةٌ من فكر متفوّق خارج هذا العالم”. فهل تعود الى فجر الإنسانية الأوَّل؟ أم هي وُلِدت لاحقاً مع الإنسان لحاجته الى التعبير الصوتي بعد تداوله بالحركات الصامتة أو التصويتية، ثم بالرسوم على الصخور، تعبيراً عن حاجاته؟ ما كانت الحاجة الأكثر إلْحاحاً حتى ولَّدَت أول كلمة نطق بها الإنسان؟ كم عدد الشرايين التي في الدماغ تتعلّق بالنطق؟ أين مكان تخزين الكلمات في الدماغ؟ هل للحروف ألوانٌ كما سائر الموجودات؟ كيف تَموت كلماتُ اللغة وبعدها تَموت اللغة نفسُها؟ أليس صحيحاً أن كلّ ما نعطيه اسماً لا يعود يموت لأن اسمه يُكمِل حياً بعد غيابه فتتناقَلُه الأجيال وتسير به الى اللامَوَات؟
من هذه الأسئلة وسواها يتّضح أنّ “في اللغة التي نتكلّم بها أصداء لأصوات شُعوب غابت من آلاف السنين”. ففي كل كلمة نلفُظُها تاريخُ ناس اكتشفوها ونطقوا بها وطوَّروها وأورثُوها أجيالاً بعدَهم حتى بَلَغتْنا. من هنا تتداخل الكلمات في اللغات، مشترَكةً أحياناً بين لغةٍ وأخرى، بتقارب أو تشابُه ذي دلالة واحدة.
ولأنّ الكلمة الأُولى هي البحثُ الأوّل، استهلّ يوحنا إنجيله بعبارة “في البدء كان الكلمة. والكلمة كان عند الله، وكان الكلمةُ الله”. ولأنّ الله هو الكلمة الأُولى، جاء السياق نفسه مع أُولى آيات القرآن الكريم في السورة الأُولى (العلَق): “إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق. خَلَقَ الإنسَانَ من عَلَق. إقْرَأْ وَرَبّكَ الأكرَم، الذي عَلَّمَ بالقَلَم، عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَم يعلَم”.
هي الكلمةُ إذاً، فلنُحَصِّن هُويّتها وهَيبتَها وهالتَها. إنها المرجع والمآل. حِرْز الإنسان قائلاً وكاتباً. سيفُه الممتشَق في كفِّه، وسيفه المصْلَت على رأسه. فليحْسِن وِفادتَها وبَثَّها. وليجعلْها فاتحة طبعه وخاتمة سلوكه. بها يَخْلُص وفيها يهلَك.
الكلمة هي الوحدة الأولى الأساسية. وهي المنطلَق: البيانُ جُمَل، والجملةُ عبارات، والعبارةُ كلمات، والكلمةُ حروفٌ تتكَوّن لتكُون الكلمة هي الأصل، هي الأساس. فلننطلقْ من احترام الأصل، من الجذع، من الكلمة. ولنحترمْها استخداماً ومعاطاة.
في البدء هي، وفي الختام.