موجات طليعية (5) : لغة الشعر
السبت 9 تشرين الأول 2010
– 666 –
إذا كان الجسد لغة الرقص (“أزرار” 662) ولغة المسرح (“أزرار” 663 )، والعزف لغة الموسيقى (“أزرار” 664) واللون لغة الرسم (“أزرار” 665) فلغة الشعر هي الكلمات. الجسد والآلة الموسيقية والألوان من المحسوس. الكلمة من التجريد. كيف يمكن أن يكون محسوسٌ من التجريد؟
في الكلمة غير المحسوسة أحرفٌ غير محسوسة كذلك. فالتعامل مع أحرف الكلمة في رقّةٍ ودقّةٍ وشفافية وخيال، من واجبات كاتبها، لأن “معرفة” التعامل مع الأحرف يَزيد الإبداع إبداعاً، فَتَتَنَصَّع الأحرف وتُنَصِّع بها الكلمة.
“معرفة” التعامل هنا تفترض أن الأحرف، وتالياً الكلمة واستطراداً اللغة نفسها، هي غايةٌ في ذاتها وليست مُجرّد “وسيلة”، مُجرد “أداة” تعبير. نُهين اللغة حين نعتبرها مُجرّد “أداة” أو “وسيلة”، فيما -انطلاقاً من كينونتها أداةً أو وسيلة- تُصبح غاية رئيسة، وخصوصاً في الشعر. وهذا ما يسمّيه رومان جاكوبسون “وظيفة شعرية” لها نُظُمُها والقوانين والقواعد.
هذه المعادلة تخطّاها (أو تجاوَزَها أو أَهملَها أو قَصَّر عنها) ذوو “الموجات الطليعية” في الشعر، فإذا تعاطيهم مع الشعر “ارتكاب معصية” فيما هو مع الشاعر “طقس مزاولة”. جعلوا اللغة مطيّة إيصال للبلوغ، للتبليغ، فأطاحوا بلاغةً هي ركيزة التمثال ومرساة السفينة. يمكن التعبير عن الفكرة بالرقص أو الموسيقى أو الرسم، ولكل دُربةٍ لغتُها. أما حين التعبير بالشعر فللشعر دُرَبُهُ التي إذا استهان بها المعبِّر رَمَتْهُ على هامش الأَلَق فَظَلَّ يُهَوِّم في فراغ تَجريبٍ يَسقُط فيه مضمونُهُ مع استهانته بالغاية التي هي اللغة.
وما غاية هذه الغاية؟ التركيب. الكلماتُ منثورةٌ في القاموس والكتب والحكي. تناوُلُها في النثر له سياق، وتناوُلُها في الشعر له سياقٌ آخر. لكلّ فنٍّ تركيبُه و”لُغاتُه”. للنثر الانسيابُ مع الحدّ الأدنى من التأنق (لِمن يريد تنصيع نثره)، وللشعر الانسياقُ الى تراكيبَ ذات مواصفات مُختلفة وقواعد مغايرة ونُظُم أُخرى. من ينهد بنثره صوب الشعر يرفع نثره الى جماليا أرقى تجعل النثر نثراً أجمل لكنها لا تجعله شعراً، ومن يغامر بشِعره صوب النثر يهبط بشعره الى صيغة أدنى تجعل الشعر شعراً أقلّ ونظماً أكثر، لكنها لا تجعله نثراً، وهذا أَسوأُ الشعر والنثر معاً.
وعبثاً يبحث أصحاب “الموجات الطليعية” عن خروجٍ من قواعد وأصول ونُظُمٍ أثبتت ثباتَها عبر عصور وأجيال، بحجة أنهم “عصريون” أو “حديثون” أو “رائديون”، لأنهم يكونون جاؤوا من اللامكان ولم يبلغوا، ولن، أيَّ مكان، كمن يشتل غرسةً في غير أرضها، تبقى الأرض رافضة تلك الغرسة وتبقى الغرسة غريبة عن تربتها فتذبل وتيبس في الشمس، عوض أن تكون قمحة مشتولة في بيدر أصيل تتذهَّب في الشمس وتتسنبل الى موسم الجنى.
ليس من يقف ضد التجريب. وكل “موجة طليعية” طالعة من الأُصول تُغْني الأُصول وتشتقّ جديداً يُحتذى. أما أن يكون التجريب كسر القوالب لمجرد كسرها، فلا القوالب ستنكسر ولا كاسرها سيبلغ قوالب جديدة. الجديد يجب أن يكون ابناً حلالاً لا مسخاً ولا ابناً حراماً من جُماعٍ حرام. لن يستقيم تجريب لا يطلع من نبع الأُصول ويروح يتفرّع الى روافد هي ابنة الأُصول أو حفيدتُها. وخصوصاً في الشعر. وتحديداً في الشعر. وعلى الأرقى في الشعر، هذا الذي لا يؤتى إلاّ للأصفياء الأُصَلاء.
الشعر وحي؟ صحيح. لا يؤتى لجميع الناس؟ صحيح كذلك. لكنّ من اصطُفي له لا يكفي أن يكون مجرد محظيّ اصطفاء. عليه أن يشتغل تراكيبَ شعره نحتاً وصقلاً واستنباطاً من البيدر (لا من اللامكان) لأن الشعر طائر جميل لا يطير إلا بجناحين متوازيَين: الموهبة والصناعة. من يمتلك الواحدة دون الأخرى لن يطير. ومن يمتلك كلتيهما عليه أن يظلّ يصقلهما قصيدة بعد قصيدة، كأن كلّ قصيدة هي الأُولى، ببكارة الأولى ونضارة الأُولى واقتبالية الأولى.
كلُّ تجريب طليعي يبدأ من هنا، ويظل يبدأ، وقدَرُه أن يظلّ يبدأ ولا يصل.