موجات طليعية (4) : لغة المسرح
السبت 2 تشرين الأول 2010
– 665 –
بين نظريّات ستانيسلاڤسكي (1863-1938) في “تدريب الممثل”، ونظريات خرجَت عن كل “تدريب” الى “موجات طليعية” خَرَقَت كل عُرْف ومعظم النُّظُم، مسافةٌ أوصلت المسرح اليوم الى ما هو عليه من أَشكال وإِشكال وعُروض ومفاهيم.
وبين “ثلاث ضربات المسرح” إيذاناً بانفتاح الستارة، و”ضربات” المسرح الحديث في ضرب كل ما كان معمولاً به في مطالع المسرح منذ مدارج اليونان حتى المسرح الكلاسيكي، مسافةٌ زمنية مشروعةُ التطوّر وفق سُنّة الحياة، لكنها تحمل الكثير من تطويرات ما زالت تُهوّم في فضاء غير مستقِرّ.
خشبة المسرح هي الفضاء الذي تُحوِّم فيه تحرّكات الممثل، كالقماشة البيضاء للرسّام، والمنصة للموسيقي، والمنبر للشاعر، وهي العالم الذي يتمحور فيه ومن أجله النصّ المسرحي. ومع التطوُّر الطبيعي للفنون، أخذَت الخشبة تتَّخذ منحى آخر، فضاءً آخر قد يتخلّى عن الكلمة (المسرح الإيمائي) أو حتى عن النص (السيرك، الرقص،…) ليبلغ مراتب عليا من جذب الجمهور.
أخذ المسرح الحديث يجمع بين المرئي والمسموع في فضاء متعدِّد الدُّرَب (الدّربة هي وحدة الفن الأساسية) ليصل الى أعمال مسرحية تجمع الشاشة الى الخشبة، وخيال الظل الى الممثل، والرموز الافتراضية الى الديكور، ولم يعُد من رادع أو ضابط أو وازع لإخراج العمل الى الجمهور في إطارٍ يشدّ أحياناً هذا الجمهور، وأحياناً يُنَفِّره.
ليس مَن هو ضدّ التجريب. وليس مَن يرفض الاختبار. وتجارب المسرح الاختباري في العالم أثبتَت جدواها وعُمقَها وجدّيّة ما قدّمت لفنّ المسرح شكلاً أو حتى مضموناً. وبين التزام الخشبة في شكل صارم أو تخطيها على الطريقة البرشتية، وبين بقاء الممثل في “فضاء” الخشبة وخروجه عنها الى الجمهور في كسر كلاسيكية الخشبة، مُحاولاتٌ جادَّة لإعطاء المسرح بُعداً عصرياً مشروعاً.
صحيح أنْ ليس المطلوب الانحصار في شروط المسرح الثلاثة، وصحيح أن التقوقع في أُطُر الأمس يُعيق تقدُّم المسرح وكلّ فنّ، لكنّ الخروج الكامل عن الأُصول يوْدِي الى خروج كامل عن ضوابط العمل وما يُبقيه من أثر في الجمهور وفي الفن نفسه.
مع تقدُّم العصر الى السينما والتلڤزيون، ونقْل معظم النصوص المسرحية، مقتَبَسَةً أو حَرْفية، الى هذين الفنَّين الواسعَي الانتشار نحو جمهور العالم كلّه لا الى جمهورٍ ضئيلٍ في صالةٍ ضئيلة، انحسر المسرح اليوم بمفهومه التقليدي إلى نخبة من الجمهور “تقصد” الصالة لـ”تُشاهد” العمل المسرحي. أَحرى بهذا الأخير إذاً أن يكون على مستوى “مجيء” الجمهور الى العمل مقابل “مجيء العمل” الى الجمهور عبر الشاشة الصغيرة.
التهاوُن الذي بان في “الشكل” (تقديم العمل المسرحي في أشكال اختبارية أو تجريبية منفلتة من كل نظام) بان كذلك في المضمون حين انفلتَ كُتّاب المسرح من ضوابط الأُصول -الفنية أو الأدبية أو الخلقية- لبلوغ حدٍّ لا ضوابط فيه وتالياً لا جمال.
لكن هذا الانفلات لا ولن يمنع المؤمنين بضوابط المسرح من تقديم الأعمال المسرحية الكلاسيكية الخالدة – اليونانية أو الفرنسية أو الانكليزية- في إخراج عصري حديث يُبقي على النص/الأساس ويقدّمه جديداً جميلاً في نبض العصر.
أما أن يصبح المسرح أداةً سهلةَ الكتابة والتقديم، في أيّ شكل، في أيّ ظرف، في أيّ مضمونٍ خارجٍ عن أصولٍ أو نُظُمٍ أو قواعدَ معرفية أو جِدّيّة ذات خبرة طويلة في التجارب وفي مرجعيات ثابثة أثبتَت جدواها، فاستسهالٌ لهذا الفن الكبير الذي يُبنى عليه جيلٌ كامل وعصر كامل من ارتقائه بالجمهور الى مراتب القِيَم والأخلاق والجمال. شكسپير وكورناي وراسين وبرنارد شو لم يكونوا مُجرّد “كُتّاب” مسرح بل وازعين كباراً في بناء الشعوب. المسرحية ليست مادةَ لَهْوٍ ولا تسلية. إنها ركن في بناء المجتمع. والبناء لا يقوم من دون جمال. وكلُّ خروجٍ على الجمال خروجٌ على الأُصول التي يُبنى عليها الكون في توازُنه واعتداله.
وهي هذه “لغة” المسرح الحقيقية التي لا تلتزم بها دوماً موجاته “الطليعية”.