937: مَن يمتلك المدينة؟ مَن يمتلك البلاد؟

الحلقة 937: مَن يمتلك المدينة؟ مَن يمتلك البلاد؟
الأحد 5 أيلول 2010

في القانون الروماني أنّ “الملكيّة قسمان: الأغراض المنقولة وتلك غير المنقولة”. وفي القانون الأنكلوساكسوني أن “الملكيّة قسمان: الملكيّة الشخصية والملكيّة العقارية”. وفي القانون الفرنسي أن “الملكيّة هي كل ما يقتنيه الفرد شرعياً بِمالِهِ الشرعي”. وفي المادة الثانية من “شرعة حقوق الإنسان والمواطن” أنّ “حقّ الامتلاك هو من حقوق الفرد الطبيعية غير القابلة للعزل”.
كلّ هذه اللوحة القانونية ترسم امتلاك “الفرد” حقوقَه الشخصية، ولكن… مَن يَمتلك المدينة؟ مَن يَمتلك البلاد؟
هل مَن يعيش فيها؟ هل مَن وُلِد فيها؟ هل مَن يُدافع عنها؟ هل مَن يَعمل فيها؟ هل مَن يَستعملها؟ هل مَن يَستغلّها؟
من يَمتلك المدينة؟ من يَمتلك البلاد؟
هل هي ملْكُ قسمٍ من أبنائها دون القسم الآخَر؟ أم هي لجميع أبنائها؟
في الآونة الأخيرة، بعد أحداثٍ ضربَت بيروت، الغاليةَ بيروت، خرجَت صرخةٌ من أبنائها يدافعون عنها، فتعالت صرخةٌ مقابلة بأنْ ليس من يَمتلكُ بيروت، وأنّ بيروت ليسَت لأحدٍ دون سواه، وأنْ لا أصحابَ لبيروت، وأيٌّ كان يُمكنه أن يَدخل بيروت مفتوحةً لأيٍّ كان، وأنّ بيروت مفتوحةٌ للجميع.
ولكنْ… هل هذا رأيُ بيروت؟ بيروت العاصمة، بيروت المدينة، بيروت اللؤلؤة التي يرنو إليها التاريخ من أول التاريخ؟
يقيناً لا. المدينةُ لا تمتلكها إلاّ المدينة. المدينةُ تمتلكُها ذاتُها. وهي من ذاتِها تكون لِمن يؤْمنون بها، لِمَن يُحبُّونها، لمن يحمُونها.
المدينةُ لا تكونُ لأحد، بل الجميعُ يكونون للمدينة. المدينةُ لا تحتاج أحداً، بل الجميعُ يحتاجون المدينة، تأويهم، تحميهم، تُعطيهم معنى لوجودهم، فـبِدونها لا معنى لهم ولا لوجودهم. ومن هذه الحاجة إليها يولَد الخوفُ عليها، الخوفُ من خسارتها، الخوفُ من فقدانِها وعدمِ إيجادها من جديد.
المدينةُ لها حدودٌ أوسعُ بكثيرٍ من حدودها الجغرافيّة. المدينةُ حدودُها الأمس والتاريخ والمستقبل. والحاضرُ كلُّه في خدمة هذه الحدود الأوسعِ من كلّ حدود.
المدينةُ ليست مساحةً أفقيّة، ولا أرضاً ترابيّة، ولا أبنيةً عموديّة. المدينةُ روحٌ. لها قَدَرٌ، ولها عمرٌ يتجدَّد من أمسها الى غدها، يُجدِّده من يُخْلصون لها.
المدينةُ هي التي تقول مَن هُم ناسُها، ناسُها الذين يُحبُّونها، يَنهضون بها. المدينة لا يمتلكُها فاتحٌ بالسلاح، ولا فاتكٌ بالنار.
المدينةُ هي التي تَرفض أو تَقبل. تَرفض مَن يُبغضُها، وتُحِسُ بِمَن يَكرهُها، وتَحدُس حَدْساً بِمَن مُخْلصٌ لها وأمين.
المدينةُ لها في ذاتها مقوّماتُ مدينيَّتِها، وهي مقوماتٌ أكبرُ من فكر الإنسان وسلوك الإنسان وتصرُّفات الإنسان.
المدينة هي الشمس، ومَن فيها يستظلُّون. وليس كلُّ مَن فيها مُستحقّاً نعمةَ الظلّ ولا الاستظلال.
المدينة صورةٌ عن البلاد. ما نقولُه عن المدينة نقولُه عن البلاد وأهل البلاد وعمّن تستحقّ لهم نعمةُ أن يستظلّوا أَمانَ البلاد.
ومَن يَستحقّ المدينةَ، يَستحقّ البلاد.
وهذه نعمةٌ ليسَت مُعطاةً لكلِّ من قال… “أنا”.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*