كـلـمـات …
السبت 7 آب 2010
– 658 –
وقفَت العروس تشِلْسِيا (ابنة الرئيس الأميركي السابق بِل كلنتون) تقول “نعم” لاقتبالها عريسها، ويقول هو “نعم” لاقتباله إياها زوجةً له، ثم أصغى الجمع الى المُكلِّل يَختم مراسم الزواج بـ”قصيدة حُبّ”، جاء فيها:
“الحياةُ التي لي، هي كلُّ ما لي. والحياةُ التي لي هي لك.
الحبُّ الذي لي في الحياة التي لي، هي لك لك لك.
النومُ الذي لي، الراحةُ التي لي، لك لك لك.
حتى الموتُ سيتوقَّف بعيداً عني
لأن سَلام سنواتي سيكون لك لك لك”.
وماج الجمع في العرس مع كلمات هذه “القصيدة” لِما فيها من دفءٍ رومنسي عذب، ووعدٍ بالوفاء والحب والالتزام، وذوَبان الـ”أنا” في الآخَر حين يغمر الحب اثنين في عشق كبير، وهما ذاهبان الى حياة زوجية سعيدة.
ولكنّ العروس، وهي أرادَت هذه المقطوعة أحدَ نُذورها لِحبيبها، هل كانت تعرف أن كلمات هذه “القصيدة” بالذات هي في الأصل “شيفرة” للعُملاء والجواسيس؟
حين نشرَت وسائل الإعلام خبر العرس ومعه “القصيدة”، نشر بعضُها أنّ هذه المقطوعة، في الأصل، هي للكاتب الإنكليزي ليو ماركس، مفكِّك الشيفرة في جهاز المخابرات السرية التابع لونستون تشرشل خلال الحرب العالمية الثانية.
يعني أنّ لهذه المقطوعة خلفيات أخرى تختلف كلياً عن ظاهرها العاشق.
ويعني أيضاً: فيما ظاهر الكلمات رومنسي حالم، يمكن الكلمة أن تحتمل مضامين أخرى غير ظاهرة، ومعاني خفيّة أَبعدَ من بُعْدِها الأول. فلا معنى للكلمة في ذاتها من دون موقعها في العبارة أو موقع العبارة في الجملة أو موقع الجملة في السياق.
من هنا أن كلمة واحدة، بحسب تَموضُعها، قد تعني المعنى وعكسه، أو المعنى وشبيهه، أو المعنى وتوسيعه، أو ربما تكون مفْرغة من معناها لو انها جاءت في سياق آخر: “كلمات… كلمات… كلمات…” يصرخ هاملت (وتغنّي داليدا).
هنا قدرة الإبداع لدى الكاتب: ألاّ تعود الكلمات وسيلة لديه ولا أدوات ولا جسوراً، بل تصبح غايةً في ذاتها وتتحوَّل على قلمه كلمة تُحْيي، أو كلمة تدمّر، أو كلمة تؤذي، أو كلمة تشفي من كآبة، أو كلمة تُحدث انقلاباً.
هذا يدل على أنّ الكلمات تأخذ المضمون الذي يريد كاتبها أن يحمّلها إياه. فلا معنى واحداً للكلمة الواحدة. من هنا أنّ لاستخدام الكلمات ثلاثة مواضع لمعانيها:
1) معنى حقيقي مسطّح من دون استعارات ولا مواربات (قصيدة حب مباشرة ذات كلمات مباشرة).
2) معنى يريد مستخدمُوها أن يؤدُّوه في ظرف معيّن لإعلان موقف معين (ظرف عرس لإعلان نذور الوفاء).
3) معنى مبطَّنٌ لكلمات مكتوبة في مناسبة معينة لمهمة معينة في وقت معين الى هدف معين (وهذه هي الشيفرة التي تكون أحياناً في نص رسالة تبدو عادية، أو في قصيدة حب تُتلى في عرس، وتكون فيها “شيفرة” لمهمة سرية).
إنها قدرة الكلمة!
وهي قدرة أعجوبيّة لامَحدودة، فارسُها مَن يَمتشقها فيرمي بها شيفرةً جاسوسيةً غامضة، أو وردةً حمراء لا شيفرةَ لها إلاّ إعلان وعد الوفاء والنذر النهائي للحب الكبير.