الحلقة 855 : هكذا نصحنا إيـپـوقـراط
الأحد 8 تشرين الثاني 2009
بعدما انتشرَت مؤخراً في وسائل الصحافة والإعلام أنباءُ منتجاتٍ زراعية مُسَرْطَنَة في الخُضَر والفواكه لوجود رواسب مبيدات زراعية فيها، وَتَوَزُّع التُّهَم بين وزارة الزراعة ووزارة البيئة، وضياع المسؤولية في مراقبة المبيدات ونِسَب استعمالها (لأن بعض المزارعين تجاوزوا النِسَب العالمية طمعاً بنضوجٍ أسرعَ للخضر والفواكه)، وبعدما تَتَّسِع موجة التنبُّه الى انتشار أنفلونزا الخنازير (H1N1) في الأوساط عموماً والمدرسية خصوصاً، تَجدُرُ العودة الهادئة الى موضوع الصحة البيئية والاجتماعية، وهو يشغل مساحاتٍ واسعةً من الدراسات والأوساط الغربية لخطورته وأهمية مراعاته إنقاذاً للصحة العامة.
فعن منظمة الصحة العالمية أنّ “البيئة المحيطة مفتاح الصحة السليمة”، موضحةً بـ”البيئة” كلَّ ما يتعلق بالوسط المباشر (تلوُّث الهواء وتلوُّث المياه وتأثير النفايات المهملة) وكلَّ ما يتعلق بأنشطة الناس (مُخالفات الصناعة والطاقة في المناطق السكنية).
هذا التنبُّه الى الصحة البيئية قديمٌ منذ إيپُّوقراط الذي لم يكن يعالج نقطةً من الجسم “قبل الاطّلاع على الجسم كله”، و”الجسم ليس منفصلاً عن مُحيطه البيئي، قياساً على المواسم، ونوعية المياه التي يشربها الجسم، والهواء الذي يتنفَّسه، والتراب الذي يعيش عليه، ونوعية العيش لدى السكان المحيطين”، ثم أخذ الرومان يُدخلون الصحة البيئية في صميم تخطيطاتهم المدنية من صرف صحي وقنوات مياه وحَمّامات، وفي العصر العباسي أكّد العلماء المسلمون على أهمية الصحة الشخصيّة في المكان والصحة الجماعية في المحيط. ثم تنبّهت أوروبا الى هذه النقطة الحيوية فراحت تعالج مسألة النظافة وتأثيرها على الصحة في مخططات الطب والبيولوجيا والبيئة والعلوم الإنسانية، مُدخلةً فيها جميعاً عناصر اقتصادية وثقافية وبيئية وطبية معاً.
ومع اكتشافات پاستور الميكروبية توسَّع التنبه الى مناطق نُموّ الميكروبات من تحت الأظافر الى الآبار الأرتوازية، وتنبَّه الناس أكثر الى ضرورة النظافة وأهميتها القصوى في تخفيض أسباب الوفيات.
هذا يقودُنا الى ضرورة الوقاية، وهذه لا تكون بِـلَوْم الدولة على تقصيرها في اتخاذ الإجراءات الحاسمة وحسب، بل الى الوعي الفردي والجماعي على ضرورة التنبُّه الى أهمية النظافة والتزام متطلّبات الصحة الفردية والعامة، وأخْذ الاحتياطات الصحية الضرورية في البيت والمكتب وكلّ مكان. فالدولة لا يُمكن أن تكون حَدّ كل مواطن إن لم يكن المواطن نفسه مسؤولاً ويراقب ذاته في سلوكه البيئي وتصرفاته الجماعية المواطنية (رمي النفايات في الشارع، تلويث الهواء، أالتسبب بالأذى البيئي فردياً وجماعياً)، فالطبيعة ملْكُ كلّ فرد منا كما هي ملْكُ الجميع، نعيش فيها جميعاً ونموت منها جَميعاً إذا كانت ملوَّثة بدون رقابة ذاتية.
إن الصحة الاجتماعية والبيئية هَـمٌّ على عاتق المواطن المستهلك لكنها، أساساً، مسؤوليةٌ على عاتق التاجر غير المسؤول، والصناعيّ غير المسؤول، والمزارع غير المسؤول، حين يتصرف كلٌّ منهم خارج الأخلاقية المهنية المسؤولة طمَعاً بربْح سريع، لكنه لا يعرف أن الضرَر سيطال ابنه أو زوجته أو أمَّه، وسيطاله هو أيضاً، مثلما سيطال المستهلك المواطن الآخَر.
فلنعرف كيف نكون مسؤولين، فردياً وجماعياً، كي نُنْقذنا من كارثة بيئية لن تفرّق بين مواطن وآخر، حين تصبح الميكروبات معشِّشةً في ثنايا الخضَر الطرية أو في حبَّة فاكهةٍ نستطيب طعمها ولا نعرف ماذا يُخبّئ لنا طعمُها من ضرر أو… خطَر.