الحلقة 850 : الوطن ليس صندوقاً ينام فيه خروف
الأربعاء 21 تشرين الأول 2009
في رائعة أنطوان دو سانت إكزوپّـري “الأمير الصغير”، يروي كيف تعطَّلَتْ طائرتُهُ يوماً فأَنزلَها في هبوطٍ اضطراريٍّ الى مكانٍ في الصحراء كي يُصلِحَ عطْل المحرك. حلّ الليل فنام، وعند الصباح أيقظه صوتُ طفلٍ يقول له: “أتسمح بأن ترسم لي خروفاً”؟ فاجأه هذا الحضور الأعجوبي، فراح يَرسم خروفاً بعد خروف، لكنَّ أيّاً منها لم يُعجب الأمير الصغير. وحين أعياه التكرار رسم صندوقاً وقال للصغير: “هذا بيتُ الخروف، وهو في داخله”. فارتاح الصغير للرسم والفكرة مقتنعاً بأن الخروف في بيته نائمٌ داخل الصندوق، وارتاح الكاتب من إلْحاح الصغير.
يقودنا هذا الأمر الى الوضع في لبنان، حيث الشعب يسأل السياسيين أن يرسموا له وطناً، فيروح هؤلاء يرسمون الوطن، رسماً بعد رسم، صورةً بعد صورة، تَصَوُّراً بعد تَصَوُّر، وليس أيٌّ منها ليرضي الشعب.
أخيراً، عند إلحاح الشعب الذي لا تُعجِبُهُ أيةُ صورة مِما يَرسُم السياسيون للوطن، يرسمون خارطة ويضعون لها حدوداً: النهر الكبير الجنوبي في الشمال، الناقورة في الجنوب، سوريا من الشرق، والبحر الأبيض المتوسط من الغرب. ويَخال السياسيون أنّ الشعب (كالأمير الصغير البريء الساذج) اقتنع بهذه الصورة وأراحَهُم من الإلحاح والتسآل. لكنّ الشعب لم يقتنع، ولا يقتنع، ولن يقتنع، فالخارطة ليست الصندوق الجامد، ولا هي مُجرد جهات أربع تَحدُّها وينتهي الأمر، والوطن ليس خروفاً نائماً في الخارطة.
الوطن حياة. الوطنُ أرضٌ تاريخية يعيش عليها شعبٌ حيٌّ متطورٌ خلاّقٌ متقدِّمٌ ناهدٌ الى كلِّ غدٍ أفضلَ من يومه وأمسه.
الوطن إبداعٌ يوميٌّ يريد أن ينمو بشعبه، أن يكبَرَ بأجياله المتتالية جيلاً بعد جيل، أن يعمل على مواكبة هذه الأجيال وتأمين عيش كريم لها، ولا يستطيع أن ينتظر جدالات السياسيين العقيمةَ المطاطةَ المملّة، ولا استسلاماتِهم واستزلاماتِهم والـ”ريموت كونترول” الذي يُحرِّكهم من داخل ومن خارج كي يبادروا الى تشكيل حكومة، أو فتْح مَجلس النواب، أو تعيين كبار الموظّفين في مناصبَ شغَرَت من زمان، وتحريك أشغال الناس ومصالحهم.
وكما سأل الأمير الصغير الكاتبَ أن يرسم له خروفاً فرسم له صندوقاً وأقنعه بأنه بيت الخروف فاقتنع الصغير بأن الخروف نائم فيه، يسألُ شعبُنا سياسييه أن يرسموا له وطناً فيرسمون له خارطة ويُقْنعونه بأن الوطن في داخلها.
لكنّ الشعب لم يقتنع بأن الوطن نائم في الخارطة ولن يرتاح السياسيون من إلْحاح الشعب.
***
أيها السياسيون: حاذِروا أن تتعاملوا مع الشعب على أنه يصدقّكم في كلِّ ما تذهبون إليه، أو تُوهِمُونَهُ به.
إنّ شعبَ لبنان ليس “الأمير الصغير”، ولا هو حتماً… بِهذه السّذاجة.