الحلقة 789: الدولة الحازمة… حاضنة وناظمة
الأربعاء 18 آذار 2009
إذا كانت الدولةُ أُمَّ المواطنين جميعاً، فدورُها نَحوهم أن تَحمي حقوقَهم قبل أن تطلب منهم واجباتِهم نَحوها. وهو هذا ما أُلاحظه في أسفاري وتنقُّلاتي بين عواصمَ ومدُنٍ وبلدان: وَفرةُ تعليماتٍ إرشادية تنثرها الدولة لِمواطنيها والزوّار والسياح.
من تلك، مثلاً، في بريطانيا: إشاراتٌ وأَسهمٌ على أرض الشارع لإرشاد المشاة في التوجُّه يَميناًَ أو يَساراً درءاً لأخطار السيارات التي تسير هناك الى يسار الطريق، تعليماتٌ صارمة بتنزيه الحيوانات الأليفة مع مراعاة أقصى درجات النظافة العامة في الشوارع والساحات. وفي سياق الحفاظ على سلامة المواطنين: إشاراتٌ وصُوَرٌ داخل الباصات تنبِّهُ الى وجود كاميرات ترصُدُ وتترصَّد أيَّ مُخِلٍّ بالأمن.
ومنها في كندا: كتاباتٌ على كلّ ناصيةٍ تُرشِدُ الى الحفاظ على نظافة الجوار والمحيط المنْزلي، وتَحُثّ المواطنين على التشجير وزرع الحشيش الأخضر أمام البيت لتزيين الحي.
وفي اليابان: إشاراتٌ ضوئيةٌ وصوتيةٌ وكتاباتٌ ملوّنة لبلوغ أكبر عدد من المواطنين وتنبيهِهم.
وفي باريس: تطلقُ الشرطة المحلية أحياناً دوريات راجلة توجِّه نداءاتٍ جهوريةً لتحذير المسافرين من خطر النشل في خطوط مترو مُحدَّدة.
وفي مدنٍ كثيرة من العالم إشاراتٌ وتنبيهاتٌ في الأماكن العامة والمحطات والمطارات والفنادق والمقاهي والمطاعم وكتاباتٌ على الجدران وعلى الطاولات تُحذِّر من التدخين في الداخل تَحت طائلة معاقبة المدخِّنين وصاحب المكان، ولافتاتٌ في المتاحف وصالات السينما والمسرح للإرشاد الى أبواب النجاة في الحالات الطارئة أو طلبُ عدمِ التصوير كي لا تؤذى الموجودات الثمينة، الى سائر تنبيهاتٍ أخرى مُحَدَّدَة تدُلُّ على حضور الدولة الحاضنة والناظمة في آن، من خلال إشاراتٍ وكتاباتٍ ولافتاتٍ إدارية وأهلية ومدنية من أجل الصالح العام، تدل المواطن على حقوقه قبل أن تطالبه بواجباته.
إنه النظامُ العامُّ الباسطُ هيبتَه على الانتظام العام. هكذا تفرض الدولة وجودَها وحضورَها وسطوتَها في سلوك مدني، وتُهَيِّئُ جيلَها الجديد على أسُس مدنِيَّةٍ سليمةٍ منذ الصغر حتى يكبرَ الجيل فيكونَ مواطناً منظوماً ومنتظماً تلقائياً بدون زجر.
فكيف عندنا تُهيّئ الدولة جيلَنا اللبناني الجديد، حين أولادُنا لا يرون حولَهم أية توجيهات من الدولة للسلوك المدني البديهي؟ وكيف يَحترمون الدولة إن هم لم يشعروا بِحضورِها وهيبتِها وسطوتِها وتوجيهاتِها للصالح العام؟
وكيف تقوم الدولة بكل ذلك، إن هي غارقة في المحسوبيات، ومكبَّلةٌ بِحالات أمرٍ واقعٍ تُنتجُ تعليماتٍ لِخدمة حقوق فئوية أغرقَت البلاد والعباد في حالات فوضى دهْرية هيهاتِ أن ننهض منها الى مُجاراة الدول الحضارية؟
إنّ الدولة أُمُّ جميع المواطنين، وعليها واجباتٌ تِجاه أبنائها قبل أن تُطالِب أبناءَها بواجباتِهم تِجاهَها.
وفي الحلقة المقبلة نَماذجُ أُخرى من هذه الواجبات.
فإلى الحلقة المقبلة، نَهار الأحد.