الحلقة 784: … وإلاّ فـإلى مَقبرة الأفيال !!!
الأحد 1 آذار 2009
من موروثات أوروبا في القرن التاسع عشر اعتقادٌ بأنّ الأفيال، عند تقدُّمها في الشيخوخة، تَنعزلُ كي تَموتَ في ما تُسَمّى “مَقبرة الأفيال”. ونسجَ الخيال الشعبي حول هذا الاعتقاد قصصاً وروايات وأفلاماً وأغنياتٍ ترمز الى النهاية المأساوية التي تصيب أشخاصاً كانوا في عزّ مَجدهم وانتهوا مَنْسِيّين معزولين في مقبرة الأفيال. وأثبت علماء الحيوان في أبْحاثهم أنّ الأفيال الهرمة، في تَصرُّفٍ غريبٍ وفريد، تتجمّع إرادياً وغريزياً الى مكان منعزل كي تَموت فيه من وهن جسمِها الضخم المتداعي، وأحياناً من وجَعٍ رهيبٍ يُصيبها لتَسَوُّس أضراسها النَّخِرة حين تبلغ الشيخوخة المتقدمة، ما يَمنعها من تناول الطعام فتموت.
ونَسَجَ الأدبُ حول ظاهرة “مقبرة الأفيال” نصوصاً مبدعة رمَزَتْ الى موتٍ إراديٍّ بعد الانسحاب بكرامةٍ من الحياة اليومية العامة، عند شعور الشخص ببدايةِ انْهيارٍ في الصورة التي يكون بَناها بين أبناء مُجتمعه العام أو في حياته المهنية. وفي التاريخ أمثلةٌ كثيرةٌ عن كبارٍ قادةٍ في كل ميدان، عند شعورهم باقتراب نهايتهم، انسحبوا من الحياة اليومية العامة كي ينطفئوا بِهدوءٍ تاركين في الذاكرة الجماعية كرامةَ ذكراهم ونُبْلَ صورتِهم حين كانوا في عِزّ مَجدهم بين الناس.
الى أين من هنا؟ الى التشبيه والتشبُّه. فكم من كبارٍ، في كلِّ حقلٍ وميدان، عمَّروا مَجدهم وصورتَهم وشهرتَهم في مُجتمهم طوال حياتهم الفاعلة الناشطة، حتى إذا طرقَت قدرةَ أذهانِهم عوارضُ العقْمِ عن الابتكار الناجع والجديد النافع، وإشاراتُ العجزِ عن العطاء المثمر المفيد، ظلوا يُصِرّون على مواصلة ظهورهم غيرَ شاعرين أن بقاءهم على المسرح اليومي بات يؤذي صورتَهم السابقة.
بينما، على العكس، مِن الكبار مَن يعرفون، حين يصيبهم وهنٌ أو هرَم، كيف ينسحبون ومتى ينسحبون بكرامةٍ من الحياة اليومية العامة فتبقى صورتُهم المشرقة بين الناس حتى بعد غيابِهم الأخير.
فيا أيها المتمسِّكُون بالبقاء على كراسيكم الهرمة، رغم عُقم ما لديكم، لا خلاصَ لكُم إلا في الانسحاب من الحياة العامة بكرامتكم وَهَيْبَتِكم، قبل أن يُصيبَكم تَسوُّسُ الضمائر الرهيبُ الأوجاع، فتنتهوا معزولين في مقبرة الأفيال.
ويا ما أخَفَّ تَسَوُّسَ الأضراس بإزاء أوجاع… الضمائر المسوَّسة!