الحلقة 745 : رأيتُ في البحرَيْن
الأربعاء 15 تشرين الأول 2008
البَحـرَيْن
كانت تتحدَّثُ إلَيّ، وفي حديثها شغفٌ بنهضةٍ ثقافية في بلادها، أتت ثِمارَها في حفنة قليلة من السنوات الماضية، وتؤتي ثِمارَها في الآتي من الزمنِ، وسيطِه والبعيدِ، إذا قُيِّضَ لِمشاريعها أن ترى النور فتنهضَ بِها البحرين الى نَهضةٍ ثقافية.
إنَّها السيّدة (“الشيخة”) مي بنت محمد آل خليفة، مؤسِّسَةُ “مركز الشيخ ابرهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث”، وما تفرَّع عنه من بيوتٍ ثقافية أبرزُها: “بيت عبدالله الزايد لتراث البحرين الصحافي”، “بيت الشِّعر في دارة الشاعر ابرهيم العريِّض”، “بيت الكورار للحِرَف اليدوية”، “بيت محمد بن فارس لفن الصوت الخليجي”، “بيت أَقرأ لِمكتبة الأطفال”، و”بيت جمشير لنشر الثقافة والحوار ومعارض التراث المعماري”.
ومن مشاريعها الراهنة: “الاستثمار في الثقافة”، وتأسيس “مؤسسة “تفاني” الثقافية”. وفي جلستي إليها شرحَت لي فكرة “الاستثمار في الثقافة”، ظاهرةً لو تتعمَّم على الدول العربية (على وزارات الثقافة تَحديداً) لازدهر هذا العالَم العربي حضارياً، ولَخرَج من قوقعة تَخَلُّفِه السياسي (أو تبعيَّتِه الاستسلامية أو الاستزلامية) الى عالَمٍ منتجٍ ثقافياً ليصبح مَرنَى الغرب ومقصدَ السيّاح الغربيين الى سياحة ثقافية يزخر بِها العالم العربي لو عرفت حكوماتُهُ كيف تُبرزُها وتُفعِّلها وتَعرضها لشعوبه وللعالم.
حدَّثتني الشيخة مي كيف اختارَت بيوتاًَ لِمبدعين بَحرَينيّين كادت تنهدم (أو قرّرت الدولة هدمها للتوسيع والتحديث) فصَوّرتْها على قِدَمِها وهَرَمِها، ونفَّذ لَها مهندسون تصاميم الترميم، ثم جمعَت داعمين ومستثمرين ومساهِمين ومشجّعين ورُعاةً للعمل الثقافي، عرضَت لَهم صُوَرَ البيت بِحالته الحاضرة والتصاميمَ لترميمه وكلفةَ المشروع، فقطفَتْ منهم دعْماً جعلَها تؤَمِّنُ حفظ تلك البيوت على اسم أصحابِها المبدعين، مع وضع لائحة بالداعمين على مدخل كل بيت.
وفي الحقل العام (حين كانت “الشيخة” مي وكيلة الثقافة في كنَف وزارة الإعلام) وضعت خططاً لترميم القلاع وإنارتِها، وتأهيل الأماكن الأَثرية وتَهْيئتها، ما لَم تكن للحكومة قدرةٌ أو نيةٌ على تَحقيقه، فَجَمَعَت دعماً مالياً بِملايين الدولارات من مؤسسات دولية وهيئات عالَمية وشركات عربية وأجنبية، وتَهَيَّأَ لتلك المشاريع أن ترى النور وتتحقّق، أو أن تتهيَّأ لترى النور، حتى تركَت “الشيخة” مي منصبها الرسميّ فعادت الى القطاع الخاص، الى مشاريعها الفردية النهضوية الثقافية.
الشاهد من كل هذا الكلام: التركيز على العلاقة الوثيقة بين الثقافة والاقتصاد، بين الاقتصاد والاستثمار الثقافي، فلا نَهضة ثقافية بدون دعم اقتصادي، ولا بقاء لأثر الاقتصاد بدون دعمِهِ الثقافةَ ومشاريعَها النهضوية لأجل سياحةٍ ثقافية ناشطة.
من هنا أنّ استقطاب رؤوس الأموال الخاصة الى مشاريعَ ثقافيةِ، يُؤَمِّن تنفيذَها حتى تتحوَّلَ سياحةً ثقافيةً للدولة فتستثمرَها، لأن الاستثمار في الثقافة مُرْبِحٌ على المدى الطويل إذا عرفَت الدولة كيف تُفيد منه بِحفْظه وصيانته.
إن مدينةً آيلةً الى العصرنة والتحديث وليس فيها سوى مُجمَّعات تِجارية ومَحالّ فخمة و”داون تاون” ترفيهيّ وأسواق استهلاكية، تبقى مدينة هشةً استهلاكيةً إن لم تكن فيها مواقعُ ومعالِمُ ثقافيةٌ يقصدها السيّاح الْمتنورون.
رأيتُ في البحرين معالِم ثقافية ورأيتُ سيّدةً بِحجم معالِم. “الشيخة” مي بنت محمد آل خليفة، دولةٌ ثقافية لو تستعيرُها لبناءِ نَهضتها الحضارية كلُّ حكومة عربية. ذلك أنّ جميعَ الدولِ والحكوماتِ تدول، ووحدَها لا تدول: الدولة الإبداعية.