الحلقة 657: هكذا حدّثَتْني ابنةُ العاشرة
الأربعاء 5 كانون الأول 2007
بعد سنتين قضاهما أخي في لبنان مُحاولاً أن يؤقْلِمَ في الجوّ اللبناني ولديه (ابنةً في العاشرة وابناً في السادسة)، وهما وُلِدا ونشآ في كندا، اتّخذ قبل ثلاثة أشهر قراره بالعودة مُجَدَّداً إلى كندا. وعبثاً حاولتُ إقناعه بالعدول، لكنه كان حاسماً حازماً في قراره، فعاد إلى كندا نهائياً، يائساً من جو في لبنان يُرعب ولديه كلما دوّى انفجار، أو وقعَت مشكلة، أو تعطّلَت مدرستُهُما لأيّ سببٍ خلال السنتين الماضيتين.
قبل يومين، اتصلت بي ابنة أخي، بنتُ العاشرة، تُخبرني بفرحٍ عن جو مدرستها هناك في مونريال، وكيف زارت مع رفاق صفها والمعلمة منْزل جورج إتيانّ كارتييه، واختصرت لي دوره في تأسيس كندا الحديثة بعد النّزاعات عليها بين الفرنسيين والإنكليز، وروت لي ماذا شاهدت في منْزله المتحف، وكيف هو مَحفوظ بأمانة وترتيب، وكيف فيه دليلٌ يشرح للزوّار مراحل من تاريخ كندا ومؤسسها جورج إتيانّ كارتييه. وختمت بأنها أصبحت تحب كندا أكثر، بعدما عرفت مؤسسها وتاريخَه ونضالَه من أجل بلاده. ثم سألتني بِبراءة الأطفال: “طوال سنتين قضيناهما في لبنان، لم تأخذْنا المدرسة إلى بيتِ أحدٍ من الذين صنعوا تاريخ لبنان. أليس في لبنان مثلُ ما في كندا من بيوتِ رجالٍ كبار، نزورها فنتعرَّف إليهم ونُحبّ بلدنا أكثر؟”
هزّني هذا الكلام من بنت العاشرة، فتساءلتُ: ماذا تعطي مدارسنا لأولادنا غيرَ ما في الكتب أمامهم؟ إلى أين يأخذون أولادنا في لبنان كي يتعرّفوا إلى لبنان ويحبوا لبنان؟ كم مدرسةً عندنا أخذت تلامذتها إلى المتحف الوطني؟ أو إلى متحف جبران في بشري؟ أو متحف أمين الريحاني في الفريكة؟ أو إلى أي متحف آخر أو معْلَم آخر تاريخي لبناني أو أثري أو طبيعي؟
كم مدرسةً في لبنان تقوم بنُزهات سياحية داخلية لتلامذتها كي يتعرّفوا إلى مناطق لبنان ويُحبوا لبنان ويروا من لبنان غير ما تَحبسهم إليه شاشات التلفزيون من وجوه السياسيين كلّ يوم كلّ يوم، الوجوه نفسها، والكلام نفسه، وأولادنا مسمّرون أمام المنظر نفسه، أو محبوسون أمام الحديث السياسي نفسه من أهاليهم.
لا يكفي ما يتعلّمه أبناؤُنا في المدارس من كتبٍ مدرسيةٍ يَخضع اختيارُها إجمالاً لمزاجية المدير أو المنسق من دون أي اعتبارٍ للمعايير تربوية، بل لإغراءاتِ ناشرٍ أو صداقةِ مؤلِّف.
ابنة العاشرة التي سألتني ببراءة الأطفال، كيف أجيبُها وهي تذهبُ مع رفيقات صفها إلى مؤسس البلاد التي هي فيها؟ وكيف أجيبُ رفيقةً لها هنا في لبنان لو سألتني عن رجل عظيم من مؤسسي لبنان الحديث، أن تزور بيته فتعرفه أكثر؟
إن الوطن الذي لا يتركُ ذاكرةً لأبنائه، سينهضُ ذات يوم ويرى أبناءه أصبحوا هناك، في بلادٍ تعرف كيف تحفظ ذاكرتها، وكيف تنشئُ جيلاً جديداً يبدأ بالتعرُّف عليها من زيارة كبارها المؤسسين، فلن يُحبَّ وطنه من لا يتعرَّف إليه، والى كباره الذين لا يتشاتَمون أمام أولاد بلادهم على شاشات التلفزيون.