الحلقة 655: الإزعاجات المختارة بين الكأس والسيجارة
(الأربعاء 28 تشرين الثاني 2007)
بدون تَـرَوٍّ في لُبّ المشكلة، ينتفضُ المدخِّنون ضدَّ كل مَن يَذكر الإزعاجات والأضرار التي يسبِّبها المدخنون لمن حولَهم.
أيضاً وأيضاً: لا علاقة لنا بالمدخنين لو كانوا يدخِّنون لوحدهم من دون أن يزعجوا الآخرين حولهم. ومن قلَّة الأخلاق أن نَزجُرَ المدخّنين ونُهاجِمَهم، لو لم يكونوا هُم يجعلون حولهم غيرَ المدخنين يدخّنون وينْزعجون من الدخان وأَضراره وتَلَوُّثه.
المدخِّنون أحرار، طبعاً، في أن يدخِّنوا، وليس لأحد أن يَحجُر على حريتهم. لكن حريتهم هذه تنتهي بِحِدّةٍ حين بتدخينهم يَغتصبون حريةَ غيرِ المدخنين. فكيف يُمكن أن يفرض المدخِّنون: لُهاثَهم التدخيني، والرائحة النَّتِنَة من أفواههم، ورشَّهم الدخان من مناخيرهم وزلاعيمهم ومن بين أسنانهم، على أجواء الغرفة حولهم، أو على صحون الأكل إلى المائدة أمامهم، أو على ثياب الناس حولهم، ويريدون ألاّ ينْزعجَ غيرُ المدخنين من هذا التلويث المقرِف على ثيابهم وصُحُون الطعام أمامهم على طاولة الأكل؟
لماذا لا نقول الأمر نفسه عن الشاربين؟ لأنّ الشاربَ يشرَب من كأْسه، ويبتلع الخمر من كأْسه، ولا يُخرِجُ نتْن رائحة فمه ولا يَرُشُّها على ثياب الناس حوله ولا على رئاتهم في صدورهم، ولا في أجواء الغرفة، ولا على صحون الطعام فوق طاولة الأكل.
لذلك، لا يتدخّل أحد في حرّية مَن يشرب، ولا ينْزعج أحدٌ مِمَّن يشرب الخمر، إلاّ طبعاً عند إزعاجات تمس حرية الآخرين، حين يدور الخمر في نافوخ الشارب، فيؤدِّي به إلى سُكْرٍ يصبح مؤذياً في كلامه أو تصرُّفه أو سلوكِه أو قيادتِه السيارة.
أما قبلذاك، فليشربْ كأساً بعد كأسٍ بعد كأس، فهو لا يزعج أحداً، على عكس من يدخِّن سيكارةً بعد سيكارةٍ بعد سيكارة، ويرشُّ النُّتْن والنيكوتين ورائحة الدخان على مَن حوله في الغرفة أو في السيارة أو على صحون طاولة الطعام.
مَن يشربُ الخمر، يشربُ لوحده ولا يزعج أحداً. ومن يدخِّنُ، يدخِّنُ مع جميع مَن حوله، ويَجعلهم – قسراً – يدخّنون، وبِـهذا يدخِّن لوحده ويزعج جميع الآخرين.
أما المدخّنون الذين ينتفضون لانتقادات غير المدخنين، بحجة أنّ “مَن لا يدخِّن فلْيبتعد هو عن المدخنين”، فلن نُجيبَهم بالقسْوة الأخلاقية المناسِبَة، بل نُذكِّرهم بأنّ قوانين العالم أفرزت للمدخنين نواحي معزولةً بعيدةً يدخِّنون فيها، ولم تُفرز نواحي نائيةً لغير المدخّنين كي يبقى المدخّنون مكانهم ويرتعوا في تدخينهم براحة ضميرٍ وأخلاق.
هذه هي الإزعاجاتُ المختارة بين الكأْس والسيكارة. لا علاقة لنا بمن يشرب الخمر بيننا، ولا علاقة لنا بمن يدخّن لوحده بعيداً عنا. للشارب حريتُه، وللمدخِّن كلُّ حريته، إلاّ حين يصبحُ الخمر خطراً عاماً، ويصبحُ التدخين إزعاجاً عاماً يبلغ حدّ الضرر.
وما قيمة القوانين إن لم تكن لحماية الإنسان من الإزعاج الذي يبلغ حد الأذى، والأذى الذي يبلغ حدّ الخطر؟
وإذا كانت حريةُ الفرد تنتهي عند حدود حرية الآخرين، فيلْفهم المدخّنون أن حرية الآخرين ليست أبداً مُلْكاً لِـلُهاث أفواه المدخّنين، ولا للدخان الموزّع علينا من مناخيرهم الكبيرة.