الحلقة 626: زنوبيا اللبنانية ملكة بيبلوس
(الأحد 19 آب 2007)
قبل مَـدِّ اليد لِمصافحة منصور الرحباني على عمله الجديد “زنوبيا” في جبيل، تحيةَ تقدير وإعجاب وتهنئة للجنة مهرجانات بيبلوس ورئيستها لطيفة اللقيس على قرارها الشجاع بالإبقاء على مهرجانها هذا الصيف، ولو مُختصراً، علامةَ مقاومةٍ لبنانيةٍ ثقافيةٍ إبداعيةٍ عنيدة، أوجعَها (بسبب الأوضاع السياسية والأمنية قُبَيْل هذا الصيف) غيابُ ليالٍ مهرجانية لبنانية منتظَرةٍ راقية، في مقدمتها الغاليان: مهرجان بعلبك ومهرجان بيت الدين.
أما “زنوبيا” منصور الرحباني (وهو العملُ الفرديُّ العاشر له بعد غياب عاصي سنة 1986 وتوقُّف الأعمال الموقَّعة الأخوين رحباني) فإضافةٌ رحبانية أخرى إلى التراث الذي ما زال يسجّل عماراتٍ شاهقةً للإرث الفني الطالع من لبنان والمنتشر على العالم علاماتٍ لبنانيةً مشرِّفةً في عصرٍ هبط به المستوى الفني إلى أحطّ درجات الإسفاف.
فالنصُّ المقطوفُ من تاريخ زنوبيا ملكة تدمر، مضافةٌ إليه تزويقاتٌ درامية رحبانية مألوفة، فتح المنصة المسرحية على أوسع إمكاناتها التي عرف مروان الرحباني، إخراجاً، كيف يستغلُّها حتى أعرض أفقها خشبةً، وأعمق بُعدِها صخوراً طبيعيةً هي امتدادٌ تاريخي لبساط قلعة جبيل التاريخية الجميلة.
والألحانُ الطالعة من المزهرية الرحبانية، باقةً جمعت الرحابنة الياس ومروان وغدي وأُسامة، إلى منصور طبعاً، جاءت في “زنوبيا” تواكب عصراً مسرحياً غنائياً لم يعُد مرتكزاً على الأغنية فقط كوحدةٍ فنية، بل على الكلّ المتكامل نصاً وكلامَ أغنيةٍ منفردة وحواراً غنائياً ثنائياً ومشاهدَ غنائيةً جماعية، ترفدُها المشهديات الجميلة إضاءةً وملابسَ وديكوراً وكوريغرافيا وتنويعات.
والتمثيلُ الذي كرَّس مُجدَّداً مكرَّسين على خشبتنا اللبنانية، سجَّل إضافاتٍ لامعةً لأنطوان كرباج بِحُضُوره الواثق الدائم، ولكارول سماحة ابنة المسرح الأكاديمي الطالعةِ إلى الغناء المسرحي بالثقة المشعَّة، إلى شلَّةٍ راقيةٍ من ممثلينا الرصينين.
والغناء الذي هو العصبُ الرئيس في العمل الغنائي جدَّد لغسان صليبا رقيَّه إلى مطارح صوته المؤكَّد غناءً ومقاربةَ تَمثيل، وأطلق موهبة كارول سماحة غناءً وتمثيلاً بِما حفر لها حضوراً مسرحياً طاغياً على الخشبة، تألّقت عليها كأنها تجتاحها زنوبيا ملكة بيبلوس، لماعةً مع مَن حولَها تلتمع بها وبهم، ساطعةً على مساحة المسرح كلّه أفقياً وعُمقياً، بِما رسم لها سلطةً مسرحيةً لا تعادلُها إلاّ هيبةُ شخصيتها التاريخية زنوبيا التي امتدّت شخصيتُها على الشرق وتحدَّت روما بصوتها الصارخ اللاهب العالي: “أنا أول صرخة حرّيَّة… في هذي الأرض العربيَّة”.
الكلام على “زنوبيا” يطول، ويتشعّب إلى روافدَ فنيةٍ كثيرة، ولن يعطى حقَّه في تعليق إذاعي ذي عُجالة، لكنّ عنوان كل كلامٍ على هذا العمل الرحباني الجديد: “المقاومةُ الفنية اللبنانية” التي لا تزال، بالموسيقى والشعر وسائر الفنون الراقية، تسجِّل (في هذه المرحلة بالذات من تاريخ لبنان المعاصر) علامةً وُثقى تجعل لبنان قيدوم هذا الشرق في أعمالٍ إبداعية لا تضاهيها أخرى في بلدان أخرى، أحدُ أركانها في هذا العصر: منصور الرحباني.