الحلقة 603: خواطر خافتة الضياء بين بحر وفضاء
(الأربعاء 30 أيار 2007)
في الطائرة التي عادت بي من باريس إلى بيروت مساء أمس، بعد رحلتي السريعة إلى الولايات المتحدة، كان لافتاً لقائي بعضَ مَن أعرفهم، وبعضَ مَن يعرفونني، والباقي مِمّن لا أعرفهم ولا يعرفونني، لأُفاجأَ بأنّ معظم مَن على الطائرة (كي لا أعمِّم عشوائياً فأقول كلَّ مَن على الطائرة) كانوا عائدين إلى بيروت من باريس أو الولايات المتحدة أو بلدانٍ أُخرى، تاركين فيها أولاداً أو إخوةً أو أخواتٍ أو أقرباء، أو يعرفون عن آخرين تاركين أولاداً أو إخوةً أو أخواتٍ أو أقرباء، في جامعات تلك البلدان، أو مؤسسات تلك البلدان، أو هم يعملون في مهنة أو أُخرى من تلك البلدان، ما يشير، كحصيلةٍ عجلى، إلى عصبٍ شابٍّ مهمٍّ جداً من شرايين لبنان، بات خارج لبنان، يغنم منه الآخرون في العالم وينْزف من فقدانه لبنان.
هذا، مرةً أخرى، يدلُّ على ما لا يزال يفقده لبنان من العقل اللبناني، طالباً متفوِّقاً كان، أم مسؤولاً في منظمة أو مؤسسة، أم موظفاً أم عاملاً في خلية عملٍ تستفيد من العقل اللبناني، ويستفيد منها مطمئناً إلى معيشته ومستقبله صاحبُ هذا العقل اللبناني، فيما يفتقده – وربما لمرحلة طويلة مقبلة، أن لم نقل يفتقده نهائياً – لبنان.
ولم يعُد جديداً قولُنا إن اللبنانيين في الخارج، أنى يكن هذا الخارج وأياً تكن الأماكن التي فيها هؤلاء اللبنانيون، متفوِّقون دراسةً أو إنتاجاً أو أداء وظيفياً أو مهنياً خلاقاً.
في تاريخ لبنان الوسيط، منذ نهاية القرن التاسع عشر، مروراً بالحرب العالمية الأُولى فالحربِ العالمية الثانية فما بين الحربين فمنذ حرب 1975 وامتداداً إلى الحروب المتتالية على أرض لبنان وصولاً إلى ما يجري اليوم، يشهد لبنان هجرةً فاجعةً لأبنائه الشباب، منها هجرةٌ قريبة قد يعود منها اللبنانيون عند أول فترة هدوء، ومنها بعيدة يَخسر فيها لبنان عقولَ أبنائه نهائياً وتغنم منها مؤسسات العالم.
جريمةُ ما يَجري اليوم في لبنان، ليسَت في ما يجري على أرضه وحسب، بل في مَن لم يعُودوا على أرضه، وهم خيرة النخبة الفتيّة من عقله الخلاّق ويده الناشطة وحميته الفوارة لبناء مستقبله، والجريمة الأخطر ألاّ يبقى في لبنان إلاّ من لن يعودوا على حميةٍ كي يَبنوا لبنان لأن بُناة لبنان الشبابَ الجددَ أصبحوا هناك، في كل هناك يغنم منهم، بعدما خسرهم هذا الـ”هنا” المفرَّغ الذي بات ينخر شرايين لبنان.