الحلقة 557: ويل لأمة لا تصغي لـِجُـبْـرانِـها
(الأحد 17 كانون الأول 2006)
سألني زميل أميركي في جامعة ميريلاند يعرف تاريخ لبنان الوسيط والحديث: “تتبجّحون بأنكم قلعتم العهد العثماني بعد احتلاله إياكم أربعمئة سنة، مع أن العثمانيين الذين دخلوا بلادكم سنة 1516، في السنة الرابعة لدخولهم (أي سنة 1520) أنجزوا مسحاً كاملاً للبنان بكلّ سكانه نساءً ورجالاً وأولاداً صبياناً وبناتٍ وماشيةً وأشجاراً وبيوتاً ومزارع. وتقولون إنكم طردتم الانتداب الفرنسي الذي دخل بلادكم سنة 1918 وغادرها سنة 1945 مع أنه ترك في بلادكم أبنيةً ومؤسسات ركائزَ لبناء الدولة لا تزال دولتُكم حتى اليوم تتمثل بها أو تغنم منها. فكيف تريدون التخلص من الاحتلال والانتداب إن كانت لا تزال فصائلُ في شعبكم تشدُّ بشعبكم إلى حيث يَرَاكُم العالم غيرَ قادرين بعدُ على بناء دولة يبنيها رجال دولة لا لوردات الحرب وزعماء الطوائف ورؤساء العشائر وقوّاد الميليشيات وأسياد المزارع وسياسيو الزواريب والأحياء”؟
أوجعني هذا الكلام مرتين: مرةً لأنه صادرٌ عن أجنبيٍّ مثقف يرى من بعيدٍ ما يَجري اليوم في لبنان، ومرة لأنه صحيحٌ هذا الذي يبدو للخارج مِمّا يجري في لبنان. وعبثاً شرحتُ لهذا الزميل، ونَحن نتمشى في ساحة جامعة ميريلاند، أن لبنان ساحة، كهذه الساحة، مفتوحةٌ على الرياح الخارجية من كل صوب، بما فيها رياحُ بلاده الأميركية، تماماً كالدول الصغرى التي تتجاذبها وتتقاذفها وتتناهشها مصالح الدول الكبرى من كل صوب.
أقول عبثاً شرحتُ له لأنه أجابني: “كما لا يمكن أحدٌ أن يدخل إلى ساحة هذه الجامعة من دون إذن الدخول على البوابة، هكذا الوطن، أيُّ وطن، لا يمكنُ أن تدخلَه أقوى دولة في العالم إن كان محصّناً ببوابة واحدة هي ثقةُ سياسييه بعضِهم ببعض، وثقةُ الشعب بسياسييه أنهم يسوسونه صوب المستقبل وليسوا يعيدونه إلى الخلف، إلى تخلّف القرون الوسطى. وطالما لا يزال الشعب تسيّره الغرائز السياسية والدينية والطائفية والمذهبية والزواريبية الصغيرة، ولا تسيّره رغبةُ بناء دولةٍ قويةٍ يستظلُّ سقفَها القوي ويحتمي به، فستبقى بلادُكم ساحةً مفتوحة، لا كساحة هذه الجامعة المحصنة الحدود بل كغابةٍ أدغاليةٍ لا أبواب لها ولا حراس”.
وكان أوجعَ ما ختم به حديثَه هذا الزميلُ في جامعة ميريلاند قولُه لي: “يا حبّذا لو سياسيوكم يفقهون عبارة جبرانكم التي يتمثَّل بها العالم كلُّه إلا سياسييكم: “ويلٌ لأمةٍ تكثر فيها الطوائف ويقِلُّ فيها الدين. ويلٌ لأمةٍ مقسَّمة إلى فصائل وكل فصيلٍ يريد أن يختصر فيه لوحده قرار الأمة”.
كنتم معي من جامعة ميريلاند. إليكم بيروت.