الحلقة 352: شاعرٌ في الحُكم هنيئاً لفرنسا
(الثلثاء 28 حزيران 2005)
لأن الديمقراطية في فرنسا حقيقيةٌ وليست شعائريةً ولا تنظيرية ولا غرغرةً لفظيةً يتشدّق بِها أهل الحكم من دون أن يطبّقوها، قضت الديمقراطية في فرنسا أن يستقيل رئيس الوزراء جان بيار رافاران فَور قال الشعبُ “لا” في الاستفتاء على الدستور الأوروبي.
ولأن فرنسا ليست من العالم الثالث الذي فيه لا يستقيل الحكام إلا مطرودين، استقال رئيس الوزراء عند أول هزة سياسية ضربت البلاد. وما كان بعدها؟ كان من الرئيس شيراك أن كلّف بتشكيل الحكومة الشاعر دومينيك دوفيلبان، أحد رواد الشعر المعاصر في فرنسا، ويباهي بذلك فوق جميع ألقابه السياسية.
إذاً، في حكم فرنسا، شاعرٌ في منصب المسؤولية. وهذا ليس جديداً في فرنسا التي عوّدَتْنا على أدباءَ فيها وشعراء في سدة الحكم أو الوزارة أو النيابة (من أندريه مالرو إلى آلان بيرفيت في نصف القرن الأخير، وقبلهما هوغو ولامرتين وسواهما). ففرنسا تعرف أنّ أديباً أو شاعراً في الحكم يأتي الحكمَ بنظرة إبداعية إذاً ديموميَّة، لا بنظرة سياسية إذاً آنية زوائلية ظرفية. وفرنسا عوّدتنا بين رؤسائها على أهل قلمٍ إن لم يكونوا أدباء فيكتبون عن تجاربهم في الحكم كتباً تغدو بعدهم مراجع، من ديغول إلى بومبيدو إلى جيسكار ديستان وسواهم.
في حكم فرنسا اليوم شاعر؟ هنيئاً لفرنسا. أما نَحن في لبنان فلا نطمح إلى هذا الحد الحضاري، بل نكتفي بِحُلمٍ صغير: أن نلتفت غداً إلى وزارة الثقافة عندنا (هذه اليتيمة المسكينة المسمّاة وزارة الثقافة عندنا، والمحسوبة علينا وزارة ثقافة) فنرى على رأْسها مبدعاً من لبنان (وما أكثر المبدعين في لبنان) يأتي الوزارة لا بعقلية المحسوبية ولا الكيدية ولا لأنه أتى جائزة ترضية لطائفته أو لِمعسكره السياسي، بل يسوس الوزارة بِمنطق المُبدع كما يضع أثرَه الإبداعي، وإلاّ فسنبقى متخلّفي السياسة الثقافية كما الحالُ في هذا البرميل الصدئِ المسمى: العالَم الثالث.